الأبوّةُ لا تُختَصَرُ بالإنجابِ والخلقِ وإحضارِ نفسٍ جديدةٍ إلى العالم، بل هي أيضًا تتحقّقُ بالتربيةِ والتعليمِ وإنضاج ِشخص ٍفي المعرفةِ والخبرةِ والفَهم. وأنا أرى المثالَ الكاملَ للأبوةِ في شخصِ اللهِ الآب، فهوَ ليسَ خالقَنا، ومخلّصنا فحسبُ، بل إنّه يعملُ على تربيتِنا وتأديبنِا في المعرفةِ وإنضاجِ شخصياتنِا تحتَ رعايتِه وتعليمِه.
في كلمة الله نرى مقارنةً بين الآباء الأرضيّين والآب السماويّ، وعلى الرّغمِ من كونِ المقارنةُ بين الكامل وغير الكامل ناقصةً، لكن يبقى أنّه هناك فيها أوجهَ شبهٍ تفيدُنا. فنحنُ نتعلّمُ من آبائِنا ولعلَّنا نفهمُ مبدأَ التعليمِ عندَ الآبِ السماويّ من هذا الإختبارِ الأرضيّ الّذي يختبرُه كلُّ إنسان. نحنُ عندَ اللهِ نجدُ أنفسَنا نتعلّمُ كلَّ يوم، وهوَ يهتمُّ بخبراتِنا ومواهبِنا ليعملَ الأفضلَ منّا.
الله يُعلّمنا من خلال العمل
نحنُ نرى، في الكتابِ المقدَّسِ، أنَّ اللهَ خلقَ الإنسانَ ووضعَه في الأرضِ ليستثمرَها ويُحقَّق كرامتَه من خلالِ عملِه ويأكلَ خبزَه من عرقِ جبينِه.
على الآباء أن يقولوا لأولادِهم أنَّ الحياةَ ليسَت سهلة، وأنَّ على الإنسانِ أن يعمل. وليعيشَ بكرامةٍ لا بدَّ من أن يعمل. وعليه أن يُدركَ أنَّ العملَ قد يكونُ متعِبًا ومرهِقًا ومؤلمًا ومدميًا في بعض الأحيان. لكن، في مسيرتِه العاملةِ في الأرضِ، يستخدمُ الإنسانُ طاقاتِ فكرِه وعقلِه وقواه الجسديّةِ بأقصاها. واللهُ وضعَ هذا القانونَ ليُعلّمَنا ويدرّبَنا ويُنضِجَنا. هذه سُنّةُ الحياة. وفيها نتعلّمُ الصّبرَ والتخطيطَ والمثابرةَ والشجاعةَ وتتشدّدُ أيادينا المسترخيةُ وركبُنا المخلّعة. وهكذا يُعلّمُنا اللهُ في الحياةِ عبرَ مدرسةِ العمل. جهّزوا أولادَكم للعملِ وليسَ للكسل، هكذا تجهّزونَهم للنجاحِ وللعيشِ الكريم.
الله يُعلّمنا عبر الأحزان والإختبارات الصعبة
الأب الحكيم يقول لابنه الحقيقة: وهي أنَّ الحياةَ مليئةٌ بالتّحدياتِ والآلامِ والأحزانِ والتجاربِ والإمتحاناتِ الصعبة. ليست هي دائمًا أفراحًا ومتعة. ويقول له أنَّ اللهَ يستخدمُ المشقّةَ والحزنَ لتعليمِنا. وقد تكونُ مدرسةُ الحزنِ والألمِ أفضلَ المدارسِ التي خرّجَت أفضلَ الخريجين! نرى أنَّ اللهَ بالألمِ يأتي بأبناء َكثيرين إلى الكمالِ والمجد. نحن نكرهُ أشواكَ الحياة، لكنَّها الأفضلُ لصياغةِ حياتِنا وتغييرنِا وتقدُّمِنا وجعلِنا على صورتِه. اللهُ يستخدمُ هذه الطريقةَ أيضًا لتعليمِنا.
الله يُعلّمنا عبر قدراتنا العقليّة
الخالق هو “إلهُ أرواحِ جميعِ البشَرِ”. هو مُعطي الإنسانَ نسمةَ الحياة، ويتعاملُ مع روحِه عبرَ تعاملِه مع قدراتِه العقليّةِ ومعرفتِه الذهنيّة. والله يتعاملُ معَنا بالروحِ القدسِ ومن خلالِ التعليمِ في الصفِّ وفي مدرسةِ الحياةِ لتنضيجِ شخصيّاتنِا وأفكارِنا ومفاهيمِنا.
بالحقيقةِ، إنَّ سنواتِ التعلّمِ الطويلةَ، التي يقضيها الإنسانُ في المدرسةِ، ليسَت لتزويدِه بالمعلوماتِ والعلومِ بقدرِ ما هي لنقلِه من مرحلةِ الطفوليةِ إلى مرحلةِ النُّضجِ العقليّ والذهنيّ والنفسيّ. في المدرسةِ، تُصقَلُ الشخصيةُ الإنسانيةُ وتنضجُ حتى يتمكّنَ كلُّ طالبٍ من أن يقولَ مع بولس الرسول: “لَمَّا كُنْتُ طِفْلاً كَطِفْل كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلاً أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ.”
الله يُعلّمنا عبر التعامل المباشر مع أرواحنا
إنّه “أبُ الأرواح” وهو خالقُها ويتعاملُ معَها مباشرةً. وذلكَ عبرَ روحِه القدوس الذي يُبكّتُنا على خطايانا ويخلقُ فينا الجوعَ والعطشَ إليه. وحاجتُنا الأكبرُ هي أن نعرفَه فنقتربَ منه ونغوصَ في بحرِ معرفتِه. عن تعليمِ اللهِ وتأديبِه لنا، يقول الوحي المقدس:
“يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ”. ويقول: التأديب ُأساسُه محبّةُ الرّبّ. “لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ”. ويؤكّد أن قبول التأديب يعني الإعتراف بأبوّة الله. “إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ”. فقبولُ التأديبِ هو “لأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ”.
الله يُعلّمنا عبر الآخرين
وعلى رأسِهم آباؤنا ومعلّمونا ومعلّماتُنا ومرشدونا والناس المحيطون بنا. من الممكنِ أن نتعلّمَ الخيرَ والشرَ منَ الناس. لكن أرجو أن نُعلّمَ أولادَنا أن يعرفوا كيفَ يتجنبون الشرَّ ويستخلصون العِبَر ويستفيدون مما يتعلمونه من خلالِ الآخرين. كتبْتُ في خاتمة ِكتابي: ستون” تحت عنوان “علّمتني الحياة”:
“علّمَتْني الحياةُ أنّني في حاجةٍ إلى الحكمةِ والتعلُّمِ دائمًا. أتعلّمُ من الانتصاراتِ والإخفاقات، ومن خبراتِ الآخرين، كبارًا كانوا أم صغارًا أم مختلفين عنّي في المعتقدِ والسّلوك. فالتعلُّم ُمن النّاسِ أفضلُ من التعلّمِ منَ النظريّات.
وتعلّمْتُ أيضًا أنَّ القِيَمَ – كالاحترامِ والوفاءِ والأمانةِ والنزاهةِ والانضباطِ والجرأةِ والصّدقِ والتواضعِ والاكتفاءِ والكرمِ والتّضحيةِ والتّضامن – أهمُّ من المعارفِ والمظاهرِ والقوّة. وتعلّمْتُ أنَّ الحقَّ والحقوقَ والجوهرَ أهمُّ من القشورِ والتّقاليدِ والخياراتِ الشّخصيّة”.
ولكوني أخاطب الآباء والأبناء معهم، أستودعُهم ما قالَه يوحنا الحبيبُ لهم: “أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ. أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الآبَ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي مِنَ الْبَدْءِ. كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الأَحْدَاثُ، لأَنَّكُمْ أَقْوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ اللهِ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَقَدْ غَلَبْتُمُ الشِّرِّيرَ.”