البحث في الألوهة ملازم للإنسان منذ القِدَم.لم يغب الموضوع عن بال الفلاسفة أو الناس العاديّين. منهم من اعترف بوجود إله يفوق بقواه قدرات الناس، ومنهم من آمن بأكثر من إله، وبعضهم من رفض وجود أيّ إله. البحث في الأديان يطول ويلذّ وهو غاية في الأهميّة للإنسان في أيّ عصر وزمن. أمّا جوهر الدين فمعرفة الله الخالق. ونسأل هل نعرفه فقط في مواصفاته الأساسيّة كأن يكون الله هو الخالق الكلّي الحكمة، والكلّي القدرة، والحاضر في كلّ مكان، والكامل الصفات، والّذي لا يتغيّر؟ هل هذه هي المعرفة الدينيّة وهل هذا هو كلّ ما في الدين؟ وهل المتديّن هو من يعرف الله أو يعرف عنه وحسب؟ أو هناك أمر آخر في معرفة الله؟
من هو الله في تصوّر البشر؟
يُظهِر الكتاب المقدس تعامل الله مع الإنسان منذ أيّام آدم. لم يترك الله جيلاً لم يشهد له أو يحكِه. العجيب هو في فهم الإنسان للإله الذي خلقه. هل يُظهِر الناس دوماً فهمًا صحيحًا لله وتعبيرًا صحيحًا عن معرفته؟ فعندما نُراجع ما يفعله المتدينون باسم الله، تتشكّل صُوَر عن الله في غاية الغرابة. لو أتينا برسّام تعبيري ليرسم لنا هذه الصُوَر، لأرعبتنا حقًّا. وربما ان البعض يتحاشى هذا الرسم حتى لا يروا بوضوح صورة الإله الذي يُكوّنه فكرهم الديني عن الخالق! قد تكون سيماء ذلك الخالق أشد قسوة وعنفًا من أعتى الذين حكموا بوحشيّة ليست من صفات العالم الإنسانيّ. وقد تبرز في ذلك الكائن السّامي نتوءات يخجل “الأوادم” أن تكون لهم. ويسأل الباحث المـُخلص: أيترك العليّ الإنسان في ترهات الجهل يُكوّن في وعيه أو في لا وعيه صورة إله يخاف من تظهيرها فتُسقِط الإله من عليائه ليُساوي البشر في ضعف طباعهم والشياطين في شرور طبيعتهم؟ أم يذهب الخيال في نسج صورة أسطوريّة يخبو فيها وجه الله تحت طبقات من الألوان الجميلة التي تُغطّي الصورة النقية الحقيقيّة فيبقى الله في غياهب المجهول؟
شوق الأتقياء لمعرفة الله
طلب موسى من الله: “أرني مجدك”. فأجابه العليّ: “لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش”. هل أخطأ موسى في الطلب؟ وهل ظلمه الله في الجواب؟ لو تأمّلنا الكلمة، لرأينا أن الله أكرم نبيّه بأن يرى مجده، لكنه لم يسمح له بأن يرى وجهه المـُنير لئلاّ يحرقه نوره. “فالله يسكن في نور لا يُدنى منه، ولم يره أحد قط من الناس، ولا يقدر أن يراه”. من جهته، عرف أيوب أن الله يمرّ بقربه وإن لم يرَه. “هوذا يـمـرُّ عليّ ولا أراه، ويجتاز فلا أشعر به”، وتيقّن أنه لن يراه بعينيه الترابيّتين. يحتاج إلى أن يتحرّر من فخّارته ليقدر أن يراه دون خوف. “أمّا أنا فقد علمت أن وليّي حيٌّ، والآخر على الأرض يقوم، وبعد أن يفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله. الّذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر. إلى ذلك تتوقُ كليتاي في جوفي”. يُشكّل الجسد ستارة تحجب رؤية الكيان الإلهيّ. هل نبقى إلى لحظة خروج الروح من الجسد دون أن نراه؟ ومن يضمن أنّنا عند اللحظة المهيبة سنراه؟ كيف تيقّن أيوب أنه يُعاينه؟ وما الذي جعله يشتاق لذلك اللقاء الذي لطالما انتظره؟
يسكن في جوهر الذّات الإلهيّة حبٌّ لا متناهٍ لأبناء الجبلة الآدميّة الذين خُلِقوا ليكونوا على صورة السماوي. سقوط الأبوين الأولين، ومعهما وفيهما سقوط نسلهما، أفقد الجميع رؤية القدوس. خسارة آدم وحواء لمعاينة الله لا تفوقها خسارة. كل ربح بدونها ليس ربحاً أبدًا. انه الشقاء بعينه. قاسٍ هو فقدان البصر ومؤلم هو عدم رؤية النور. عرف هؤلاء الرجال الكبار أن حياتهم لن تطول على الأرض التي حُرِموا فيها رؤية مُعطي أرواحهم. فبحثوا عنه وطلبوا رؤيته. وهذه هي الطلبة الأهم.
اعلان الله في يسوع
أفتكِرُ بالأعمى الذي سأله الناصري: “ماذا تُريد أن أفعل بك؟” حمل صوت المسيح نغماً سحريّاً دخل إلى أعماق روح ذاك الذي عاش العمر في كهف الظلام. الصوت أيقظ فيه الطلبة القديمة: “أرني مجدك”. “فقال له: يا سيّدي أريد أن أبصر”. أخالُه يتمتم في قلبه: “لا أريد ملّيمًا واحدًا ولا أريد صحن طعام ولا شفقة ولا عطفًا. أريد فقط أن أبصر”. هل عرف ذاك الرجل من يكون المسيح؟ وهل نعرف نحن حقيقته؟ تتباين الآراء في المسيح. منهم من عدّه مُعلّمًا ومُصلحًا. ومنهم من آمن به نبيًّا ورسولاً. هل نعرف أنه أتى ليُرينا من اشتهته الأجيال وعجزت عن رؤيته؟ نعم، لهذا جاء المسيح ليُرينا ذاك الذي لم يرهُ أحدٌ قطّ. أعلن يسوع: “أنا نور العالم” وهو القادر أن يمنح البصر للناس ليروا الله. شفاؤه لعميان كثيرين إنما يقول أنّه الوحيد القادر على أن يُعطي البصيرة للبشر ليروا الله.
وما الّذي رآه الأعمى عندما انفتحت عيناه؟ رأى “النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان”. رأى الذي تمنّى الجميع أن يروه ولم يقدروا. كان يرى من قال فيه بلعام ذات يوم: “أراهُ ولكن ليس الآن. أُبصرُهُ ولكن ليس قريبًا” وسقطت القشور من عيني الأعمى وأخاله قال: “رأيته الآن. إنّي أراه لنفسي”. يا لهذه اللحظة المجيدة عندما يرى الإنسان خالقه، “فطوبى لمن يُعاين الله”.
أمُتديّن أم مُبصِر؟
ما أبشع العمى الروحي الذي يحرم الإنسان رؤية خالقه. كتب جون ستوت كتابه المشهور: “أمُتديّن أم مسيحيّ” في محاولة منه ليُساعد المتديّن على أن يعرف الله حق المعرفة. وعندما ضربت الساحل اللبناني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر موجة من العمى أسّست المـُرسلَة البريطانية الإنجيليّة “إليزابيت باون تومبسون” أول مدرسة للعميان في الشرق الأوسط في محاولة لمساعدة المكفوفين، وقد ساعد الطبّ كثيرًا في انحسار هذا الداء. وفي هذه الأيام التي تزداد فيها الظلمة في بلادنا، أسأل قارئ هذه السطور: هل أنت مُتديّن لله أم مُبصر له؟ أجاد سعيد عقل في تحديد الطلبة الأهم في حياة الإنسان إذ قال:
أَعْطِنَا رَبِّ قَبْلَ كُلِّ عَطَاءٍ أَنْ نَحُطَّ الْتِفَاتَةً فِي سَنَاكَ،
كُلُّ مَا دُونَ وَجْهِكَ الْجَمِّ[1] وَهْمٌ أَعْطِنَا رَبِّ أَعْطِنَا أَنْ نَرَاكَ.
وإذ نرى المسيح نرى الإله المنير والمحبّ والودود والطيّب والشفوق والرحوم والعزيز والمـُعزّي والمبارك الوحيد القادر على أن يُنير حياتنا ويُمجّدها. نحن الآن في وادي الجثث. وإلى رئيس الحياة تتوق أرواحنا. وسنراه. نعم سنراه. آمين سنراه. فهو “يأتي مع السحاب، وستنظره كلّ عين، والذين طعنوه، وينوح عليه جميع قبائل الأرض. نعم أمين.” والّذين ينتظرونه سيتغيّرون في لحظة، في طرفة عين. قال يوحنا الحبيب “أيُّها الأحبّاء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنّه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو”.