علت أصوات الإحتجاج قبل القرن السّادس عشر داعية لإصلاح الكنيسة الرّومانية إلّا أنّ محاكم التّفتيش سحقتها. ظهرت أيضًا مجموعات معارضة من خارج الكنيسة، مثل الألبيجنسيّين والوالدنسيّين، الذين استشهد أتباعهم، وتدفّقت دماؤهم كأنهار ماء. تحدّث رجال مثل جون ويكليف (1320-1384)، وجون هوس (1360-1415)، وجيرولامو سافونارولا (1452-1498) ضدّ المفاسد الكنسيّة المسلكيّة والعقائديّة والماليّة والإداريّة. حُرق اثنان منهم، وأُقصي الثّالث عن الخدمة.
اشتدّت أصوات المعارضة. فاضطرّت الكنيسة للقيام بإصلاحات طفيفة، لم يُكتَب لها النّجاح، في مجالس بيزا (1409)، وكونستانس (1414-1418)، وبازل (1431). وكانت جماعة “إخوة الحياة المشتركة” قد نهضت حوالي العام 1350 بهدف تحقيق الإصلاح وانتمى إليها رجال مشهورين أمثال: جون ويسل، وإيراسموس، وتوماس كيمبيس.
زمن الإصلاح
عيّن الله في تدبيره الصّالح القرن السّادس عشر وقتًا للإصلاح. ويشهد التاريخ لأزمنة محدّدة في التّاريخ، تدخّل فيها الله لإفتقاد الناس، وكان الإصلاح الإنجيليّ من ضمن هذه الأوقات المجيدة. مهّدت العوامل الدينيّة والإقتصاديّة والسياسيّة، المختمرة منذ قرون، الطّريق له. فمن جهة كانت البابويّة تعاني من الفساد والمشاكل لقرون خلت، وانحدر المستوى الرّوحي والأخلاقي للرهبانيّات. ومن جهة أخرى كان اللاّهوت المدرسي قد ابتدأ ينحدر، مقابل نهوض حركات التصوّف التقويّة، وانتعاش الأدب الكلاسيكيّ القديم. وقام مفكرون مستقلّون يتمتّعون بروح المغامرة يطرحون مسائل كبيرة. وتمّ اكتشاف العالم الجديد واختراع المطبعة وانتشر العهد الجديد بالّلغة اليونانيّة. وابتدأ عصر النّهضة (Renaissance) العلمانيّ محفّزًا لاستخدام العقل ومُنتِجًا الحركات الإنسانيّة (Humanism). كلّ هذه كانت جزءًا من خطّة الله لتحقيق أعظم نهضة دينيّة منذ القرون الثّلاثة الأولى في تاريخ الكنيسة.
خلفيّات الإصلاح
من الناحية السياسيّة، ساعد التحوّل من الإقطاعيّة إلى الدّول القوميّة، شعوب شمالي غربي أوروبا في مقاومة سلطة البابويّة اللاتينيّة وتبنّي الإصلاح. عارض حكّام أقوياء نقل قضايا محاكمهم إلى محكمة البابا. كما حدث مع الملك الإنكليزي هنري الثّامن في مسألة طلاقه.
وفي الناحية الاقتصاديّة، كانت التّجارة قد ازدهرت بعد اكتشاف المواد الخام وانتعاش الأسواق والمدن. ظهرت الطّبقة الوسطى، والتّجارة الدوليّة، وقيمة العملة النقديّة. وثار الحكّام وشعوبهم مُطالبين بأموالهم الّتي كانت تُجمع في خزينة البابا، وبأراضي مقاطعاتهم الشّاسعة المملوكة من البابويّة. طلب النّاس المساواة وإنهاء ظلم الحكم الإقطاعيّ.
أما على الصعيد الفكريّ، فثار العقل الأوروبي على المبادئ الدينيّة الموروثة التي افتقدت للبراهين المقنعة والأساسات المتينة. والتزم المفكرون حريّة الفكر وأحيوا الأدب القديم ورجعوا إلى نصوص الكتاب المقدس الأصليّة. وشدّدت “النّهضة” على أهميّة “الإنسان الفرد”. واهتمّ المصلِحون بالعلاقة الفرديّة مع الله، والخلاص الشّخصي دون اللّجوء لوساطة رجال الدّين. وبعد انتشار العهد الجديد بلغة الشّعب، بان الفرق الهائل بين كنيسة العهد الجديد وكنيسة القرون الوسطى. وحلّت سلطة الكتاب المقدس محل سلطة الإكليروس، وصار المؤمن يستطيع أن يكهن لنفسه أمام المسيح مخلّصه الشخصي.
ويبقى موضوع سوء استخدام صكوك الغفران الفاضح في ألمانيا السّبب المباشر لظهور الإصلاح. وُضع هذا النظام على يد Alexander of Hales في القرن الثالث عشر، ويقضي بأن يدفع الإنسان مبلغًا ماليًّا للتّكفير عن خطاياه دون الحاجة الى التوبة، وأنّه بإمكان أيّ كان أن يشتري صكًّا لغفران خطايا الأحياء والأموات من أقاربه.
وصل الراهب الدومينيكاني تِتزِل، أحد أهمّ وكلاء بيع صكوك الغفران إلى إلمانيا في القرن السادس عشر. هاجمه لوثر بعنف واعترض على بيع الصكوك في منشور علّقه على باب كنيسة وِتنبرغ في 31 تشرين الأول 1517، واحتوى هذا المنشور على خمسة وتسعين قضية للبحث تتعلّق بتجارة الغفرانات، وصلاحيّة البابا لمغفرة الخطايا، واستحقاقات القدّيسين. وفي اليوم التالي نشرت المطابع احتجاج لوثر وكان الشرارة لانتشار الإصلاح من إلمانيا الى كلّ أوروبا الشماليّة الغربيّة.
كان الإصلاح ثورة هادرة وسيلًا جارفًا لفساد وخرافات سادت القرون الوسطى وكان حركة بنّاءة للحقّ تُنشد الحرّية والإستقلاليّة بتحفّظ ومثابرة وتدرّج وإيجابيّة لذا نجح واستمر. وقد هدم الإصلاح مؤسّسات وبنى أفضل منها، وأبطل ممارسات سطحيّة وأحيا عوائد كتابيّة معمّقًا ممارستها.
لوثر بطل الإصلاح والعصر الحديث
من المهم ذكره أن رجال الإصلاح كانوا بمعظمهم كهنة قد وُلِدوا واعتمدوا وتثبّتوا وتعلّموا وخدموا في الكنيسة الكاثوليكيّة ناذرين أنفسهم رسميًّا لطاعة البابا. وقد تميّز المصلِحون بدوافع نقيّة، وأهداف سامية، ومقدرة فكريّة، وشوق عارم للمسيح. إلّا أنّهم لم يكونوا دائمًا بدون أخطاء، إذ أنّهم لم يرتقوا كلّيًا فوق تأثير الظّروف التي شكّلت حياتهم، كما أنّهم لم يتّفقوا على كافة النقاط العقائدية، رغم انسجامهم في مسألة جوهريّة هي الإنجيل والخلاص بالنّعمة. أمّا تباينهم الفكريّ فمرّده تمسّكهم بحريّة الضمير والرأي وكان ذلك سرّ قوّة حركتهم.
يلمع من بين المُصلِحين اسم مارتن لوثر كرجل الإصلاح الأول وهو الّذي شقّ الطّريق وعبّده. إلا أنّ الحقّ يُقال أنّه لولا العوامل المجتمعة الّتي سمح الله بوجودها في تلك الحقبة، لما استطاع لوثر إنجازَ ما قام به، ولأصابه ما حلّ بجون هصّ الذي حُكِم عليه بالموت قبل مئة عام. مع ذلك احتاج الأمرُ الى شخص بمقدرته، جمعَ في ذاته، كلَّ هذه العوامل والمتغيّرات. أما ولادة فكرة الإصلاح فتعود في أصلها إلى طرح لوثر للسؤال: “ماذا أفعل لكي أخلص؟”، الذي قاده إلى مناقشة موضوعات الغفران والسلطة الكنسيّة وشكل الإدارة الكنسيّة وإرجاع التّعاليم المسيحيّة إلى أصول الإنجيل.
كان لوثر علاّمة في الكتاب المقدّس وفي الوقت نفسه كان وطنيًّا محبًّا لبلاده. فجمع إصلاحُه كلَّ المحبّة الّتي يمكن لإلمانيّ أن يكنّها لشعبه. تكلّم لغة الفلاّح الإلماني وشعر بأحاسيسه، فتبعه بعد أن عانى الأمرّين لمدّة نصف قرن من تعسّف المؤسّسة الكنسيّة. احترمه المتصوّفون الرّوحانيّون، لأنهم رأوا فيه رغبتهم للدنوّ من الله بدون واسطة بشريّة كهنوتيّة ومؤسّساتيّة. قرأ لوثر الكثير من مؤلّفاتهم وتأثّر بها فتكلّم بلغة يفهمونها. أمّا أتباع مذهب إحياء العلوم القديمة، والحركة المدرسية المعروفة ب Scholasticism، المطالبين بإصلاح على أساس اتّجاه عقليّ جديد، فوجدوا فيه الرجل المفكّر العقلاني الحرّ الّذي يمثّلهم.
كلّ هذه الإتّجاهات وجدت فيه بطلًا يمثّلها. يضاف إليها اختباره الدّيني الشّخصي الّذي كان يسير ببطء وتدرّج من الخوف، إلى الإحتجاج، إلى الإقتناع، إلى الولادة الجديدة، إلى الجدال العنيف، إلى تحديد الموقف الشّجاع المأسور لكلمة الله، إلى الإنفصال. كان هذا الإختبار المتدرّج، خطوة خطوة، مرآة تعكس اختبار الشخص الإلماني العادي. لذا فهمه الجميع إذ كان يشبه الجميع. لو لم يحمل لوثر هذه الشّخصيّة بالّذات لجاء الإصلاح اللّوثري ناقصًا في استعداده، ولربّما لما حدث.
صحيح أن الإصلاح بدأ رسميًّا عام 1517 حين تحدّى مارتن لوثر الكنيسة الكاثوليكيّة بموضوع صكوك الغفران، إلا أنّه لم يتوقّف هناك. فلوثر لم يخطّط للنّتائج الهائلة الّتي أثّرت في المجتمع الإلماني، وبعده في العالم أجمع، بسبب اكتشافه الخلاص بالإيمان في يسوع. ومن المؤكّد أن لوثر لم يعرف أن حركته ستُغيّر مجرى التّاريخ وتُنهي ما عُرِف بالعصور الوسطى وتؤسّس العصر الحديث. وها الإصلاح الذي ابتدأ كحركة دينيّة سرعان ما دفع، بشكل مباشر وغير مباشر، كافّة الميادين الكنسيّة والتربويّة والمجتمعيّة والإقتصاديّة والفكريّة والسّياسيّة والإداريّة نحو تقدّم غير مسبوق. وهكذا صارت البروتستانتيّة القوّة الدّافعة الرئيسيّة في تاريخ الحضارة الحديثة.