لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ. كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ، وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ، كَذلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرّ، إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً.” (جا 9: 12).
مناقشةُ موضوع الموت أمرٌ واقعيٌّ وعقلانيٌّ حكيمٌ، كالبحث في كلّ أمور الحياة. يجب عدم استبعاده وعدم الحديث عنه في حياتنا. كلّ إنسانٍ يسأل في سرّه، كيف يحدث الموت؟ وماذا يشعر المرء لحظةَ انتقاله؟ وتتزاحم الأسئلة، من يعرف متى تكون ساعة رحيله؟ وهل يمكن توقّع اقتراب الأجَل؟
يخضعُ الموتُ بحسب سليمان النّبيّ لعنصر المفاجأة، ولا يمكن التنبّؤ بلحظة مجيئه. يستخدمُ سليمان صورةً من هواية الصّيد ليحكي عن موت البشر، فيُشبّهه بوقوع الأسماك في الشّبكة المهلكة، أو العصافير في الشّرك. يحدث كلاهما بغتةً، ولا يمكن أن تفلت الضحيّة. يجب أن يُدرِك الإنسان الحكيم عنصر المفاجأة في الموت، فيستعدَّ ما دام حيًّا. “لأَنَّ لِكُلِّ أَمْرٍ وَقْتًا وَحُكْمًا. لأَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ عَظِيمٌ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ. لأَنَّهُ مَنْ يُخْبِرُهُ كَيْفَ يَكُونُ؟” (جا 8: 6-7).
لا تفسير لفجائيّة الموت، ولا نمط واحدًا له. ولا يفيد النّقاش والجدل فيه. ليسَت القضيّةُ نوعيّةَ حياة الإنسان وسلوكه وإدراكه ومقامه. تمامًا كما أنّ لا تفسير لماذا يعلق عصفورٌ في المصيدة، ويفلت آخر؛ وكيف تعلق سمكةٌ في الشّبكة، وتفلت أخرى. يبدو الأمر مصادفة. يزعل النّاس من المصادفة إذا جاءتهم بالموت، بينما يُحبّونها إذا أتتهم بربحٍ غير متوقّع! السّؤال هو، لماذا نُفاجأُ بشرّ يصيبُنا وتصدمُنا لحظةٌ رهيبةٌ آتيةٌ، نشعر بمجيئها من دون معرفة زمن وصولها؟ ولماذا يصدمنا الموت ويُفجعنا متى جاء، وكيفما جاء؟ ألم يخبرْنا الكتاب المقدّس بهذه الحقيقة، وأنّ الله أبقى توقيتَ الموت مخفيًّا عنّا لنكون مستعدّين وساهرين دائمًا؟
الموت ومعنى الحياة
أدرك سليمان أنَّ في الحياة وقتًا لكلّ شيء. فهناك وقت للولادة وآخر للموت. هذه المواقيت مرتّبةٌ من سلطةٍ علويّةٍ. قد لا نفهم حكمة الله في الموت، لكنّها حكمةٌ صالحةٌ لخير البشر. يجد سليمان أيضًا أنَّ الله وضع في داخل الإنسان صدى الموت الآتي من بعيد، الّذي يدفعه إلى البحث في معاني الحياة الحاضرة والآتية بعد الموت، وأسرارها، ويأتي به لمعرفة الله. “صَنَعَ الْكُلَّ حَسَنًا فِي وَقْتِهِ، وَأَيْضًا جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ، الَّتِي بِلاَهَا لاَ يُدْرِكُ الإِنْسَانُ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْمَلُهُ اللهُ مِنَ الْبِدَايَةِ إِلَى النِّهَايَةِ.” (جا 3: 11).
لا ينتصر إنسان على الموت مهما زاد علمه وكثرت قوّته. لذا من الحكمة أن يستعدّ له كما يتحسّب لمفاجآت الحياة غير المتوقّعة والّتي يصعُب تجنّبها. الموت أمرٌ حقٌّ، وحقيقيٌّ، وحاضر في البديهة، ولا مفرّ منه. لقد “وُضِعَ لِلنَّاسِ أَنْ يَمُوتُوا مَرَّةً ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ الدَّيْنُونَةُ” (عب 9: 27). وما أرهب الدّينونة!
لا بدّ من الاعتراف بأنّ الإنسان مخلوقٌ ضعيفٌ وهشٌّ، ويحتاج إلى نعمة الله ليتقدّم وليعيش. هذا ما أعلنه الفلاسفة اليونان وأكّده بولس الرّسول باقتباسه من شعرائهم، “الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ… هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. وصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ.” (أع 17: 24-28). إذا كانت حياتنا منه، فليس لنا سلطانٌ عليها. لا يخبرنا الله القواعد الّتي وضعها والّتي تتحكّم بموتنا وخروجنا من الأرض. واجبنا التّسليم له، وتجهيز أنفسنا للحظة الرّحيل، معترفين، “فِي يَدِكَ آجَالِي” (مز 31: 15).
فالإنسان، مهما زاد علمه وخبرته، يجهل لحظة انطلاقه من العالم، وما يحدث له ساعة مغادرة روحِه له. ولا يقدر مائتٌ واحدٌ أن يُخبرَنا ما حدث معه بعد الموت. لذا يسأل أيّوب، “هَلِ انْكَشَفَتْ لَكَ أَبْوَابُ الْمَوْتِ، أَوْ عَايَنْتَ أَبْوَابَ ظِلِّ الْمَوْتِ؟” (أي 38: 17). وحدها كلمة الله تكشف لنا ما يصير هناك بعد الموت. يصوّر النبيّ إشعياء مشهدًا يصف فيه عظماء الأرض يموتون، ويقفون عند استقبال أرواح زملائهم الآتين بعدهم ليستقبلوهم كضعفاء، ومائتين، ومساوين لهم. (أش 14: 9-10).
يتنبّه الإنسان لهذين السّببين، مفاجأة الموت وجهل ما سيكون عنده، فلا يعودُ يحيا بعبثيّة، بل بجديّةٍ مطلقة. ولأنّه لا يملك سلطانًا على الوقت والموت والحياة، ولا على أيّامه، يكون عليه الاستعداد للحظة رحيله المباغت.
الاستعداد للموت
يستعدّ الإنسان الحكيم للحظة الموت الرّهيبة. يعترف بأنّه سيموت لا محالة، بغتةً وفي أيّ وقت، لذا يحتاط ولا يؤجّل. صرّح داود النّبي لصديقه يوناثان، “إِنَّهُ كَخَطْوَةٍ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَوْتِ” (1صم 20: 3؛ أي 34: 20). وحده الغبيّ يستبعد الموت متهاونًا بهذا الموضوع الخطير فلا يستعدّ له.
يُحدّدُ الإنجيل المقدّس “الطّريقةَ الوحيدة” ليكونَ الإنسانُ مستعدًّا لمواجهة الموت، ألا وهي “الإيمان بيسوع المسيح”. فهو الّذي قال: “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي” (يو 14: 6). ويؤكّد الإنجيل مرارًا، “لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ” و”مَنْ لَهُ الابْنُ فَلَهُ الْحَيَاةُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ ابْنُ اللهِ فَلَيْسَتْ لَهُ الْحَيَاةُ.” (يو 3: 16؛ 1يو 5: 12). ولنوال الحياة الأبديّة لا بُدَّ من أن نطلبَها منه فيُعطينا إيّاها. “اُطْلُبُوا الرَّبَّ فَتَحْيَوْا” (عا 5: 6). وعندئذٍ فقط نطمئنّ إلى مصيرنا الأبديّ ونقول بثقة، “لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ… لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا.” (في 1: 21، 23). وحدهم الّذين آمنوا بالمسيح يضمنون حياتهم الأبديّة معه. الإنسان الحكيم هو حكيم لنفسه ولا يهمل مصيره الأبديّ، “طَرِيقُ الْحَيَاةِ لِلْفَطِنِ إِلَى فَوْقُ، لِلْحَيَدَانِ عَنِ الْهَاوِيَةِ مِنْ تَحْتُ.” (أم 15: 24).