يُعاني عدد كبير من الأشخاص عدم الانضباط في تصرّفاتهم، وإذ يلجأون إلى مساعدة غيرهم، يُخفِقون في تقبّل الإرشاد والعمل بموجبه. وقليلون يعرفون أنّ المشكلة تكمن في قدرتهم على الانضباط الذّاتيّ. تُساعد كلمة الله المؤمن على أن يفهم حاجته إلى الانضباط. أمّا التدرّب عليه، فيحتاج إلى قناعة مُخلِصة ورغبة قلبيّة من قِبَل الّذي يُعاني قلّة انضباطه.
للانضباط المسيحيّ معانٍ عديدة، أوّلها أنّه القابليّة للتّكيّف بين يدي الله وفقًا لمشيئته، تمامًا كما الطّين في يد جابله. إنّه خضوع المؤمن، بفرح ووعي ورغبة، لنواميس الله الرّوحيّة والأدبيّة والأخلاقيّة الثّابتة. صلّى أحدهم قائلاً: “يا ربّ، أعلم أنّي سأخضع لانضباط معيّن، إمّا بسبب الضّغوط المحيطة بي، أو تنفيذًا لإرادتك. إذا قبِلت الأولى، فسأزول، وإذا قبِلت الثّانية، فسأحيا”.
والانضباط هو أيضًا التّدريب المستمرّ والمنتظَم وفق شروط كلمة الله ومبادئها، حتّى يبلغ المؤمن الشّخصيّة النّاضجة والمتَّزِنَة. يعلّمنا سفر العبرانيّين أنّ المؤمنين النّاضجين هم أولئك الّذين “بسبب التّمرّن قد صارت لهم الحواسّ مدرَّبة على التّمييز بين الخير والشّرّ” (عبرانيّين 5: 14). والتّدريب يُساعد “المدرَّب” على أن ينضبط، بحيث لا تبقى هناك فوضى في شخصيّته أو سلوكه؛ فلا يبقى في حياته إلاّ ما هو جدير ونافع. إنّ انضباط طاقات الإنسان وميوله الدّاخليّة، وعدم ترك العنان لها لتتّجه حيث تشاء، يُساعد المؤمن على أن يصير مجهّزًا بسلاح الله الكامل لكي يقدر على مقاومة مكائد إبليس ويثبتَ في اليوم الشّرّير.
والانضباط، أخيرًا، هو جهاد ومثابَرَة. فالتّعريفات الأولى لا تُفيد من دون المثابرَة والاجتهاد. يقول الرّسول بولس، في 1كورنثوس 9: 14-27، إنّ مَن يركض في الميدان، عليه أن يجاهد ويثابر ويضبط نفسه في كلِّ شيء، لكي يصل إلى هدفه. المؤمن بالمسيح هو كالرّياضيّ الّذي يقمع جسده ويستعبده ليركض لحياة أفضل، لحياة مقدّسة ومنتصرة. للأسف، ليس جميع الّذين يبدأون الجهاد الرّوحيّ يُكملونه. هذا ديماس يترك الجهاد الرّوحيّ لأنّه أحبّ العالم الحاضر؛ وهذا يهوذا الأسخريوطيّ تغلبه محبّة المال، فيبيع سيّده لأجله. ما أبعد الفرق بينهما وبين الرّسول بولس الّذي “مكث” (أي استمرّ وجاهد وثابر) في الخدمة لأنّ بابًا عظيمًا قد انفتح له، على الرّغم من وجود معاندين كثيرين (1كورنثوس 16: 8-9).
كيف يكون الانضباط المسيحيّ؟
قال الرّبّ يسوع، معرِّفًا تلميذه الحقيقيّ، بأنّه شخص يُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبع المسيح. هذا لا يسأل عن منفعة شخصيّة، بل كلّ همّه أن يحيا لقضيّة المسيح والإنجيل (مرقس 8: 34). ولكي يستطيع المؤمن أن يحمل الصّليب، عليه أوّلاً أن يُسلّم ذاته، أي “الأنا”، وكلّ ما يملكه ليد الله. من هنا أهميّة وصيّة الرّبّ: “يا ابْني أَعطِني قَلبَك”، الّتي يجب أن يُقابلها المؤمن بالتّسليم الكلّيّ: “وَحِّد قَلبي لِخَوفِ اسْمِك”. في هذه الكلمات، يتعهّد المؤمن أن يكون قلبه كاملاً أمام الرّبّ؛ فيسير في فرائضه ووصاياه كلّ أيّامه. ويحرص المؤمن المنضبط على ألاّ يكون تسليمه للرّبّ محصورًا في الأمور الهامشيّة، بينما يبقى محتفظاً في القلب لنفسه؛ فإن لم يضع قلبه تحت سلطان الله، يخفّ انضباطه الدّاخليّ، فتجرفه ميوله خلف الباطل، كما حصل مع الملك سليمان الّذي سمح للنّساء بأن يستملن قلبه بعيدًا عن عبادة الله إلهه.
لربّما السّؤال الّذي يجب أن يطرحه كلّ مؤمن بالمسيح هو: هل أقبل فعلاً أن أكون “مبرمَجًا” بحسب مشيئة الله؟ قال أحدهم لواعظ كان يسبّح الرّبّ من دون انقطاع: أليس من المعقول أن يعتاد المرء على تسبيح الرّبّ؟ فأجابه على الفور: نعم، ولكنّها عادة حسنة وقليلون هم الذين يمتلكونها. من الضّروريّ أن يعوّد المرء نفسه على مجموعة من العادات الحسنة، بحيث يعتاد على السّلوك في الطّريق المسيحيّ من دون تفكير. يقول الرّبّ يسوع: “الإنسان الصّالِحُ من الكنْزِ الصّالِح في القَلب يُخرِج الصّالِحات، والإنسان الشّرّير من الكنْزِ الشّرّير يُخرِج الشّرور” (متّى 12: 35). إنّ الفكر والعمل والعادة تصبح، مع مرور الوقت، جزءًا من الشّخصيّة. لذا، يجب على المؤمن أن يراقب، يومًا فيومًا، الأمور الّتي تكوّن سلوكه، وذلك بأن يسأل نفسه ما هي العادات الّتي تحتاج إلى قمع أو انضباط في حياته؟
إنّ محبّة الذّات والأنانيّة هي الخطيّة الأولى والعظمى الّتي تجعل المؤمن يُخفق في اتّباع المسيح. ولكن، حين ينضبط الإنسان ويخضع لله، يصبح بإمكانه أن يقول مع الرّسول بولس: “أَستَطيع كلَّ شَيء في المسيح الّذي يُقوّيني”.
في أيّ شيء يكون الانضباط؟
صحيح أنّ الإنجيل يُعلّم أنّ الخلاص يكون بنعمة الله وليس بأعمال الإنسان، إلاّ أنّه يُعلّم أيضًا أنّ على مَن نال نعمة الخلاص أن ينمو من النّاحيتين الأخلاقيّة والرّوحيّة. ولاختبار النّموّ، يحتاج المؤمن إلى جرأة خاصّة لمواجهة الذّات والمجتمع وقبول التّغيير. للأسف، هناك مَن تنقصه هذه الجرأة فلا يختبر أيّ نموّ. هذه سيّدة تقول إنّها مؤمنة، أخذت تفقد محبّة زوجها بسبب أمور تافهة تقوم بها. ولمّا أشار عليها أحدهم بالتّخلّي عمّا يُهدّد وحدة العائلة، أجابت: لا أستطيع أن أواجه المجتمع لوحدي، فجميع صديقاتي يفعلن الأمر عينه. والنّتيجة كانت أنّها خسرت زوجها لأنّها لم تمتلك الجرأة الكافية لتكيّف نفسها بالطّريقة الصّحيحة وتنضبط كما يجب. وهكذا، يخسر الكثيرون بركات لا حصر لها، لأنّهم لا يروِّضون ذواتهم بالطّريقة السّليمة. يضيق الوقت في هذه المقالة للتّحدّث عن الانضباط في كلّ شيء. ولكن، من المهمّ التّنبّه إلى الانضباط في المجالات التّالية:
- الانضباط في استخدام الوقت: كثيرون لا يستخدمون ما عندهم من وقت على أفضل وجه، وينسون أنّ كلّ لحظة ضائعة هي جزء ضائع منهم.
- الانضباط في استعمال اللّسان: من الضّروريّ ترويض اللّسان على قول الكلام الحقّ والصّريح والدّقيق والمُفيد والمناسب والمحِبّ والطّيِّب.
- الانضباط في السّلوك الاجتماعيّ وما يتطلّبه من لباس منضبط وحركات منضبطة وعلاقات منضبطة.
- الانضباط الرّوحيّ وما يتضمّنه من دراسة يوميّة لكلمة الله والمواظبة على الصّلاة الفرديّة والعبادة في الكنيسة.
لماذا الانضباط؟ وما هي الغاية منه؟
ليس الهدف أن يكون المسيحيّ صاحب شخصيّة مهذَّبَة وحسب، بل أيضًا أن يصير أكثر شبهًا بالمسيح. قال الرّبّ يسوع: “كلّ مَن صار كاملاً يكون مثل معلّمه” (لوقا 6: 40). وإن أراد المؤمن أن يتشبّه بالمسيح، عليه أن ينضبط ويدرِّب نفسه على القواعد الرّوحيّة والأدبيّة والكتابيّة، حتّى تتملّك فيه بحيث تصبح جزءًا من طبيعته، تعمل فيه بشكل عفويّ وتلقائيّ؛ فيكون له ضمير بلا عثرة من نحو الله والنّاس.
قليلون يعرفون أنّ الانضباط هو طريق الحرّيّة الحقيقيّة. فثمّة فكرة مزيّفة عن الحرّيّة، في الحضارة المعاصرة، تقول: أنت حرّ أن تفعل ما يحلو لك. أمّا الجواب المسيحيّ، فهو: أنت حرّ أن تفعل ما يجب عليك أن تفعله. قد يظنّ أصحاب الرّأي الخاطئ أنّ الانضباط المسيحيّ يُفقد المؤمن حرّيّته وفرحه في الحياة، إلاّ أنّ سفر المزامير يؤكّد أنّ الّذين يحفظون فرائض الرّبّ من قلوبهم، تمتلئ حياتهم بالفرح والتّرنيم (مزمو119: 2، 54). وحده المؤمن المنضبط حرّ من جميع القيود البالية، ويعرف معنى الحرّيّة الحقيقيّة.