تبع كثيرون يسوع لأنّه شفى المرضى وأشبع الجياع. آمنوا به كصانع معجزات. لكنّهم رفضوه كمخلِّص لهم من خطاياهم وتذمّروا من تعاليمه السّامية. ولأنّ التّاريخ يعيد نفسه، نجد بعضًا من النّاس في أيّامنا يؤمّون الكنائس للحصول على حصّة غذائيّة أو معونة طبّية أو ليشاهدوا عجيبة. إنّهم يرغبون في العطيّة وليس في المُعطي. يعرف الله ما في قلب الإنسان من أشواق وقرارات. إذا كانت خياراته لا تقوده ليختبر نعمة المسيح في حياته تبقى ناقصة وبلا قيمةٍ خلاصيّة وأبديّة.
ذات ليلة التقى يسوع بمعلّم دينيّ وقور اسمه نيقوديموس. جرى بينهما حديث طويل حول الولادة الجديدة. أخبره أنّه لن يستفيد شيئًا من طقوسه الدّينيّة إذا كان لا يقبله. صرّح البشير يوحنّا أنّ المسيح جاء إلى خاصّته فلم تقبله. “أمّا كلّ الّذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله المؤمنين باسمه. الّذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله”. هذا هو الإطار الأساسيّ للإيمان المسيحي. إمّا أن يقبل الإنسان يسوع أو لا يقبله. من يقبله يكون اختار فعلًا حياة الإيمان به وتكون له الحياة الأبديّة. ومن يرفضه لم يختبر الإيمان به وبالتّالي يكون بدون المسيح وبدون خلاص وهو ذاهب إلى الدّينونة.
قبول المسيح
يعني الفعل “يقبل” أن “يأخذ ويقتني”. الدّعوة لقبول المسيح هي دعوة لاستقباله في القلب كما هو مكتوب عنه في الكتاب المقدّس. فهو “عمّانوئيل الّذي تفسيره الله معنا”، الّذي ظهر في الجسد وصار إنسانّا وحلّ بيننا. ابن الله وابن الإنسان الجالس عن يمين الآب في السّماء. كإنسان ولد من العذراء المباركة مريم، وهو أيضًا الإله السّرمدي مَن لا بداية ولا نهاية له.
ظنّ الناس أنّ يوحنّا المعمدان هو نور الرّجاء الآتي إلى العالم فتوجّهوا إليه. وحين عُلّق يسوع على الصّليب انتظروا ظهور النّبي إيليّا. يطلب الإنسان يسوع في أنبياء وقدّيسين، وهو موجود في ذاته. له يشهد جميع الأنبياء أنّه وحده مخلّص البشر، والنّور الحقيقي الّذي ينير كلّ إنسان. لكنّ العالم لم يقبله لئلاّ تظهر أعمالهم الشريرة في نوره الطّاهر.
تشير عمليّة القبول أيضًا إلى تسليم الذّات والخضوع له كالسّيد الوحيد المطلق، والإقرار بأنه الملك صاحب السّلطان. أن يهب الإنسان نفسه جسدًا وروحًا ليسوع، ليسود على إرادته وفكره وآماله، هو أيضًا خيار. لا يتمتّع المرء بغفران خطاياه ويتحرّر من قيود الخطيّة والإنتصار على الشّهوات بدون هذه العمليّة. قال يسوع، “من يعمل الخطيّة هو عبد لها. إن حرّركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحرارًا”.
البنوّة للمسيح
يتبع خيار قبول المسيح اختبار البنوّة مع الله؛ “كلّ الّذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله,و المؤمنين باسمه”. يتوازى سلطان الله مع قدرته الكاملة. إنّه قادر أن يجعل من يقبله من عداد شعبه. لا قوّة في الكون تفعل ذلك. فقدت والدي في الرّابعة عشرة من عمري. عرفت معنى ألّا يكون للإنسان أبٌ في حياته يرعاه ويؤمّن له احتياجاته. جيّد أن يكون لي أب أرضيّ لكنّ الأفضل أن يكون الله أبي. فهو يسير معي، ويحميني من كلّ شرّ، ويحامي عنّي، ويحرسني كحدقة العين. إنّ المؤمن بيسوع لا يهاب شيئًا. بل يفتخر لأنّ أباه، صاحب كلّ سلطان في السّماء وعلى الأرض، قادر أن يبارك حياته بطرق تُذهل العالم.
ينتسب المؤمن إلى الله ويكون محبوبًا منه. يقترب إليه في أيّة ساعة في اللّيل و النّهار، فيجده حاضرًا لمعونته وإرشاده. الأب الأرضيّ لا يقدر أن يساعد في أمور كثيرة أمّا الآب السّماوي فيقدر. لذا صرّح بولس قائلًا، “أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني”.
الولادة الرّوحيّة
الإيمان والولادة الرّوحيّة أمران متلازمان ومتزامنان. حين يقبل الإنسان يسوع يولد ثانية. يوضح سبرجن أمير الوعّاظ قائلًا، “لا تسأل مؤمنًا بالمسيح إذا كان مولودًا من الله لأنه حتمًا مولود ثانية. غير المؤمن هو ميت بالخطيّة”. لا يولد الإنسان مؤمنًا، ولا تنتج الإرادة البشرّية تجديدًا. فهذه العمليّة ليست بمشيئة رجل ولا بمشيئة جسد بل بكلمة الله وبالرّوح القدس. قال يسوع لنيقوديموس، “المولود من الجسد هو جسد. والمولود من الرّوح هو روح”. الرّوح القدس يخترق كيان الإنسان الدّاخلي بطاقةٍ إلهيّة ويصيّره خليقة جديدة في المسيح. برهان الحصول على الولادة الروّحية أنّ “الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكلّ قد صار جديدًا”. هذا هو المقياس الّذي يفحص المؤمن نفسه به ليتأكّد أنّه في الإيمان.
يجب ألّا يبحث الإنسان عن اختبار آخر إذ ليس هناك خيار ثان. لا تتعلّق القضيّة بالمشاعر بل بالحقائق الكتابيّة الثّابتة. لا ينفع البحث عن معجزة دون الإلتفات إلى المسيح وقبوله لأنّها ليست طريقًا إلى السّماء. ولا يفيد التمسّك بالفلسفة فهي تقود إلى الشكّ أمّا الإيمان فهو يقين النّفس المضطربة وراحة الضّمير القلق. أنشد أحدهم، ” عليك يا صخر الأزل أُلقي رجائي والأمل، وغيرك الكلّ رمال”.
حمل الربّ يسوع المسيح خطايا البشر على الصّليب ليعبّد أمامهم طريق قبوله ويفتح لهم أبواب السّماء. ينبغي عليهم امتلاك الرّغبة في قبوله ومن ثمّ التّرحيب به في قلوبهم ليملك على حياتهم. الأمر هو خيار يتبعه اختبار.