يُشكّل التّوجيه العلميّ لاختيار مهنة المستقبل النّبراس الضروريّ لمساعدة طلّاب المدارس في تحديد مسارهم نحو مستقبلهم المهنيّ. يُسبّب إهمال هذا التّوجيه ضياع سنة واحدة جامعيّة، على الأقلّ، لدى ستّين بالمئة من طلّاب الجامعات. يُضيّع بعضهم سنواتٍ عديدةً من عمرهم لكونهم لم يُحسنوا اختيار الإختصاص الملائم لهم. كان معظم الطلّاب في الماضي يختارون المهنة الّتي ينصحهم بها الأهل إرضاءً لأحلامهم المرتبطة بالتقدّم الإجتماعيّ أو باعتبارات شخصيّة أخرى. وهناك طلّاب يختارون مهنة حلموا بها مع رفاقهم ولا يأخذون بعين الإعتبار إذا كانت ستضعهم في سوق العمل أو سوق البطالة.
تُنظّم المدارس اليوم مَعارِضًا للجامعات تزورها مرّة في السّنة ليتعرّف الطلاب إلى الكليّات المتنوعة فيختاروا الإختصاص المناسب. لكن في الواقع جُلَّ ما تقوم به هذه الجامعات هو التّرويج لبرامجها أكثر من التّوجيه المتجرّد لمساعدة الطّالب في معرفة ما يُناسبه شخصيًّا وما يؤمّن له فرصة عمل مستقبليّة.
أين يبدأ التوجيه العلميّ لإختيار مهنة المستقبل؟ هذا الأمر يجب أن يبدأ في المدرسة وما بين العشر سنوات إلى اثني عشر سنة (كما يحصل في أوستراليا). أو بحدٍّ أقصى في الصّف الثّامن من المرحلة المتوسّطة. كان لوزارة التّربية في لبنان، أيّام الوزير غسّان تويني والمدير العام جورج عقل (1970-1971)، تجربة رياديّة في التّوجيه العلميّ بدأوه في عشر نوادٍ في مدارس دعوها نموذجيّة. قاموا بإرشاد التّلامذة أبناء الصّف الثّالث ابتدائي وحتّى المتوسّط الرّابع، لاكتشاف مهاراتهم. توقّفت هذه التّجربة مع بداية الحرب في العام 1975. يجب أن ينفصل الإرشاد التّربوي عن المساعي التّجاريّة والترويجيّة للجامعات والمدارس المهنيّة الّتي تُحاول تأمين موارد ماليّة أو المحافظة على اختصاص أو كليّة، ناجحة لديها، عبر اجتذاب الطلّاب المستقبليّين.
التّوجيه العلميّ يكون أوّلاً بالتّعامل مع كلّ طالب بمفرده، عبر مساعدته في اكتشاف مواهبه الشّخصيّة وقدراته وميوله المهنيّة واستعداداته ومهاراته، وما يُمكن أن يعمله في مستقبله بغضّ النّظر عمّا يحبّه. لكلّ شخص مقدرة، وموهبة، وميول خاصّة به. تُساعد لقاءات الإرشاد الخاصّة، واختبارات اكتشاف المواهب الدّقيقة، في تحديد توجّه الطّالب لمهنة يؤدّيها بنجاح وتُحقّق له مُتعة الإنجاز.
ويأتي استعراض المِهَن المختلفة وتفصيلها ليُساعد الطّالب فهمَ طبيعتها ومتطلّباتها، ومدى وجود فرص عمل لها، وما إن كانت تُناسبه أو يجد نفسه فيها. يمكن تعريف الطّالب إلى تلك المهن عبر الأفلام القصيرة والإنترنت وحضور النّدوات ومقابلة أصحاب الإختصاص وزيارة المصانع والمشاغل والمؤسّسات المتخصّصة كما في قراءة كاتالوجات الجامعات والمهنيّات الّتي تؤمّن فرص تعليمها.
يساعد التّوجيه المُبكّر، في مرحلة البروفيه والسّنتين الأوّليتين من الثّانويّة، في تحديد مسار الطّالب نحو اختيار الإختصاصات المهنيّة والتقنيّة. فيسير نحوها بخياره الواعي لا مجبرًا بسبب رسوبه في امتحان الشّهادة الرسميّة. إنّ أفضل ما يمكن القيام به هو تقديم النّصح للطّالب ليختار التّعليم المهنيّ والتقنيّ المناسب فيضمن مستقبلًا لا يعرف البطالة.
لا بدّ للمدارس أيضًا من دمج التّوجيه العلمي لاختيار مهنة المستقبل في برامجها. فتُقيم النّوادي المهنيّة والتّقنيّة والدّورات الأوليّة المكثّفة ليستكشف الطلّاب قدراتهم الذّاتية ويبدأون بتحديد خياراتهم المهنيّة وبتنمية الفكر العمليّ لديهم. يجب أن ينهض التّعليم في لبنان، في المجالين المهنيّ والتكنولوجي، ليضاهي الدّول الرّائدة. في إلمانيا تلقّى ثلثا الطلّاب التّدريب المهني الأوّلي، وقد أتمّه 87% منهم. بكلام آخر فإنّ 51% تقريبًا من جميع شباب إلمانيا مرّ بالتعليم المهني. هونكونغ تُعلّم أولادها المهن الّتي تجعلهم متقدّمين في صناعة الإلكترونيّات، والنّسيج، والبناء، وتكنولوجيا المعلومات، والميكانيك، والكهرباء، والإلكترونيات، والبناء، والفندقيّة والّسياحة.
إنّ تعريف الطلّاب إلى المهن وصفاتها الفنيّة والصّحيّة والإقتصاديّة، وما تتطلّبه من استعدادات من جهة، وحاجات سوق العمل من جهة أخرى، يعفيهم من إضاعة سنوات من عمرهم لصالح الدّخول المبكّر إلى حياة منتجة تُساهم في تحقيق أحلامهم وتحسين أحوالهم.
وختامًا لا بدّ من تنوير الطّالب من نحو الخيارات الجيّدة الّتي يمكن أن يأخذها لاختيار المعهد المميّز أو الجامعة الجيّدة حيث يتلقّى التّعليم المهنيّ والعلميّ المناسبَين فيعود منها حاملاً إسمها الرّفيع الّذي يفتح له أبواب التّوظيف. فبعض المؤسّسات التّربويّة التّجاريّة قد تسرق ماله ووقته وجهده ولا تُحسّن سيرته الذاتية CV لتكون مقبولة في سوق العمل.