العنوان الملفت ليس لي، بل لكتاب اوليفييه روا، عالم الاجتماع المميّز، الذي تناول اشكالية الدين والثقافة عبر المجتمعات والأديان التوحيدية والانسانية. الكتاب يتحدّى قارئه، وبخاصّة القارئ المؤمن وصاحب الاختصاص والعامل في الشأن الديني. وهو يبحث في ظاهرة التديّن في مواجهة الثقافة العالميّة الواقفة خارج اطار اطروحتها الدينية. ويتناول الكتاب باسهاب التوترات والمواجهات والانكافاءات وعمليات المشاكلة والتثاقف الحاصلة بين خطوط تماس الديني والثقافي من دون أن يدخل في مناقشة المضمون الأساسي للأطروحة الدينية إلا عندما يصل البحث إلى مناقشة آليّات تقديم هذا المضمون “للآخر” المنوي تبشيره، بل قلْ تغييره. ويحث الكثير الكثير مما في هذا الكتاب على التفكير المعمّق.
وأكثر ما دفعني إلى الاسترسال في التفكير والتأمّل، وأنا أقرأ صفحاته التي تناولت الديانات الكبرى الشرقية والتوحيدية، هو حضور حالات وشخصيّات عرفتها تُجسّد العنوان: “الجهل المقدس”. ويصير الجهل مقدسًا كلّما احتاج “المتديّن” إلى عنصر الجهل لتحصين موقعه في مواجهة فكر يتحدّاه إلى إعادة النظر بما يؤمن. ولبعض المتدينين قدرة سحرية على تحويل “جهلهم” إلى سيف مقدّس يشهرونه في وجه العقل والبرهان والحجة والاعلان ويضعهم في الوقت عينه في مصاف المتنورين الأوفياء. والأغرب في موضوع المؤمنين بالله من جماعة “الدين بلا ثقافة” هو في أنهم يدّعون الامساك بـِ “كتاب مقدّس” لا يعرفون ما فيه. جلّ همّهم ان ينتقوا ما يعجبهم من أجزائه ويستندوا إليها في تبرير ممارستهم التقوية والاجتماعية التي لا يدعمها سائر النص المقدس. يعوم “السوق الديني” (والعبارة لأوليفييه روا) بمظاهر غريبة عجيبة يؤكّد “مختبروها” فاعليتها ووقوف العنصر الإلهي خلفها! ولا يهمّ هل إن الاختبار صحيحٌ ويصمد أمام امتحان التاريخ والتفسير والضرورة الايمانية، او هل إنه يُقنع “الآخر” الذي هو من الخارج! ومع هذا نرى أن الجميع يندفعون إلى الشهادة على ما اختبروه وعرفوه وإلى دعوة الآخرين إلى قبول ما عندهم حتّى ولو أنه يخلو من أي قيمة تُذكر. وتتمثّل المفارقة في أن التقنيات المستخدمة في تقديم هذا الاختبار الديني هي ذاتها ويستخدمها جميع “الدعاة” من مختلف الأديان!
أخذت، وأنا أقرأ مقاربة اوليفييه روا النقدية لأساليب بعض الجماعات المسيحيّة في مقاربة الشعوب لمسحنتها، افتكر بمضمون الانجيل، الكلمة المسيح، الإله المـُعلِن عن ذاته، الذي أرسل تلاميذه ليشهدوا له. كيف أعدّهم، وبما زوّدهم، وإلى ما أرسلهم. لم تكن بشارة الرسل سهلة، فهم بمعظمهم من غير أهل العلم الذين حازوا على ثقة علماء عصرهم. إلا أن “المعلّم” جهّزهم وبات لهم خير مثال، وأعطاهم “روح قدسه” وذكّرهم بما قاله وبما جاء في الكتب. ونرى هنا العنصر الفائق للطبيعة يتعامل مع بشر مستخدمًا نصوصًا وكلمات وتعاليمَ وذهنًا بشريًّا. وتلاميذ المسيح علّموا تلاميذهم ليقرأوا ويبحثوا ويفهموا ويؤمنوا. وجاء دور تلاميذ تلاميذهم من بعدهم. وهؤلاء تحدّتهم الفلسفة اليونانية يومها. فانبروا يقرأون ويبحثون ويُحاججون ويغلبون. عمل “الآباء المدافعون” وطيفٌ كبيرٌ من بعدهم على نشر الايمان ومخاطبة النخب والجماهير وتأسيس الصروح العلميّة وترك إرث كبير من كتب ومكتبات… والأهم هو في أنهم بنوا جماعة الايمان.
واليوم، في وسط زمن “دين بلا ثقافة،” يتجلّى “الجهل المقدس” من خلال توغّل إنسانه في غيبوبة العقل ونشوة النفس وشذوذ التصرفات حتى إذا وُجد من يرغب بالعودة إلى خالقه فإنه لن يجد من يُقنعه. هل أنه يا ترى زمن الايمان بلا معرفة من جديد، كعندما حُرِّمَ الكتاب المقدس ومن يقرأه في القرون الوسطى، أو أنها آخر الأيام حيث ينهار الإيمان والتعقّل تحت أقدام الجهل المقدس؟