في اللّغة اليونانيّة، وفي الفلسفة اليونانيّة القديمة، الحياة “Zoe” تعني حياة الجسد. إنّها ليست شيئًا ما لكنّها القدرة المُحيِيَة للأشياء. إن وُجِدت في الأشياء قُلنا إنّها حيّة. فمثلاً، هناك شجرة حيّة وحيوان حيّ وإنسان حيّ. حتّى أنّ الفلاسفة اليونان تكلّموا على الكون “cosmos” الحيّ، الّذي تُحييه الحياة، والّتي بدورها تُحيي الآلهة أيضًا. أمّا بخصوص حياة البشر، فالحياة ترتبط بالطّبيعة “Bios” الّتي تُظهر إن كانت حيّة أم لا. ولا شيء لدى الفلاسفة اليونان، ولدى الكثيرين من أتباعهم اليوم، اسمه “حياة” بعد “البيوس” أو بعد “علم الأحياء” “biology”.
لكن، عبر التّاريخ، أتت أجيال من الفلاسفة والمفكّرين الّذين سألوا إن كانت الحياة هي مُجرّد الحياة البيولوجيّة الّتي يحياها الإنسان. وبعضهم قال بوضوح إنّ مَن يعيش فقط حياةً بيولوجيّة يُخفِق في إظهار إنسانيّته الحقيقيّة. فالأنثروبوس (الإنسان) يجب أن يكون عنده حياة أسمى من مُجرّد حياة طبيعيّة بيولوجيّة. ولطالما كان الفكر البشريّ الدّينيّ والفلسفيّ يشعر بأنّ حياة الإنسان هي من مصدر سامٍ سماويّ، يفوق بمبدئه وجوهره الحياة الطّبيعيّة الموجودة في الكائنات الحيّة الأخرى. لذا، بحث النّاس، منذ القديم، عن تعريف للحياة البشريّة وعن ماهيّة الحياة الحقيقيّة، فوجدوا تحديدات متنوّعة لا يغفلها اللاّهوت المسيحيّ.
حياة في وعاء ترابيّ
وبينما يبحث النّاس في أسرار الحياة الإنسانيّة، يوضح بولس الرّسول أنّ مصدر الحياة هو من الله وليس من البشر، “ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفيّةٍ، ليكون فَضلُ القوّة لله لا مِنّا” (2كورنثوس 4: 7). وهكذا، نرى أنّنا، كآنية فخّار، فينا حياة ليست منّا وهي تُحيينا. حالنا كحال قنديل فخّاري، فيه زيت، وفتيل إنارة مُشتَعل. وكلّ هذا ليس منه، بل من صاحب البيت الّذي جهّزه وأناره. هكذا هي الحياة الّتي فينا. هي حياة في وعاء فخّاري.
أمّا الحياة في الوعاء الجسديّ، فقد وضعها الله في الإنسان يوم خَلقه، وهذا ما تؤكده كلمة الله في سفر التّكوين: “وجَبَل الرّبُّ الإله آدَم تُرابًا من الأرض، ونَفَخ في أنْفِه نَسَمَة حياة. فصار آدم نَفْسًا حيّة” (تكوين 2: 7). هكذا أتت الحياة إلى الجسم التّرابيّ الّذي جبله الله من تراب الأرض. ويذكر العهد القديم أنّ الحياة توجد في الدّم (تكوين 9: 4)، والله قد حدّد عمر حياة الإنسان في زمن الطّوفان، وهكذا، يكون عمر الحياة تحت سلطان الله المباشر، “فقال الرّبّ: لا يَدينُ روحي في الإنسان إلى الأبد، لِزَيغانِه، هو بَشر. وتَكون أيّامُه مِئَة وعشرين سنة، فها أنا آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأُهلِك كُلّ جسَدٍ فيه روح حياة من تحت السّماء. كلّ ما في الأرض يَموت” (تكوين 6: 3، 17).
وهكذا، حياتنا هي على سبيل الإعارة من عند الرّبّ. فالرّبّ إله الحياة، وإن شاء أن ينزعها من النّاس، يموتون، “تَنْزِع أرواحَها فتَموت، وإلى تُرابِها تَعود” (مزمور 104: 29). أمّا الّذي يُكرمه الله فيُعيطه طول العمر، كما فعل الله مع إبراهيم الّذي أعطاه أن يعيش 175 سنة، وبعدها “أسلَمَ إبراهيم روحه ومات بِشَيبَةٍ صالِحةٍ، شيخًا وشَبعان أيّامًا” (تكوين 25: 8). إذًا، الرّبّ خالق الإنسان، هو الّذي يُعطيه الحياة وهو الّذي يأخذها منه، “انْظُروا الآن! أنا أنا هوَ وليس إلهٌ مَعي. أنا أُميت وأُحيِي. سَحَقْت، وإنّي أَشْفي، ولَيس من يَدي مُخلِّصٌ” (تثنية 32: 39). ويتكلّم العهد القديم أيضًا على الحياة الإنسانيّة أنّها لا تستمرّ فقط بقوّة الخبز والغذاء، “لكي يُعلِّمَك أنّه ليس بالخُبز وَحدَه يَحيا الإنسان، بل بكلِّ ما يَخرُج من فَم الرّبّ يَحيا الإنسان” (تثنية 8: 3)، بل بالالتصاق بالله الّذي يُعطيها، “البارّ بالإيمان يَحيا” (حبقّوق 2: 4).
حياة من المسيح
ويذهب العهد الجديد إلى الكلام على الحياة ببُعدها الرّوحيّ، فيقول إنّ “حياة يسوع” تظهر في أجسادنا المائتة بسبب الخطيّة فتُحييها (2كورنثوس 4: 11). وهكذا، نرى أنّ العهد الجديد يزيد على مفهوم العهد القديم عن الحياة الجسديّة مفهومًا آخر، وهو مفهوم الحياة الرّوحيّة. فإن كان الآب يُعطي الحياة للأجساد، فالمسيح يُعطي الحياة للأرواح، “لأنّهُ كما أنّ الآبَ له حياةٌ في ذاتِه، كذلِك أعطى الاِبن أيضًا أن تكون له حياة في ذاتِه” (يوحنّا 5: 26)، أمّا المسيح فيُعطينا حياته لتُحيينا. فالله هو الإله الحيّ الأبديّ، الّذي له وحده عدم الموت (رؤيا 4: 9-10؛ 1تيموثاوس 6: 16). وهو ربّ الأحياء والأموات (1بطرس 4: 5). وبالتّالي، الحياة البشريّة وحياة الإيمان تعتمدان على الله. فمَن يعيش منّا، للرّبّ يعيش، ومَن يموت، فللرّبّ يموت، “لأنْ ليس أحَد مِنّا يَعيش لذاتِه، ولا أحَد يَموت لذاتِه. لأنّنا إنْ عِشنا فللرّبّ نَعيش، وإنْ مُتنا فللرّبّ نَموت. فإنْ عِشنا وإنْ مُتنا فللرّبّ نحن” (رومية 14: 7-8). أمّا أن نعيش لأنفسنا فنحن نعيش للخطيّة والموت (رومية 6: 2).
وهكذا، نكتشف أنّ للحياة معنى أسمى مع المسيح. فالحياة الحقيقيّة هي في المسيح ومنه، ولا يُمكننا أن نحيا من دونه. فهو الإله الّذي فيه كانت الحياة (يوحنّا 1: 4)، وهو خبز الحياة (يوحنّا 6: 35)، ومنه ماء الحياة (يوحنّا 4: 10-11)، وكلماته روح وحياة (يوحنّا 6: 63)، وهو الواهب حياة للعالم (يوحنّا 6: 33). والمسيح هو الإله الّذي يُحيينا إن اتّحدنا به (رومية 8: 2)، وبعدها يحيا بنا ونحيا به بحسب ما شهد بولس: “فأحيا لا أنا، بل المسيح يَحيا فِيَّ” (غلاطية 2: 20). أمّا هذه الحياة فنحياها في المسيح لله (رومية 6: 11).
ويوضّح العهد الجديد أنّ المؤمن يأخذ الحياة من يسوع بوساطة الرّوح القدس (1كورنثوس 15: 45). ومن تلك اللّحظة تظهر حياة يسوع فيه (2كورنثوس 3: 11)، وهي حياة جديدة (رومية 6: 4)، وبارّة (رومية 6: 12)، وحرّة من الخطيّة والنّاموس (2كورنثوس 3: 17).
مَن يؤمن بالمسيح يحصل على هذه الحياة الرّوحيّة المجيدة، كما حصل مع الابن الضّالّ الّذي كان ميتًا، ولكنّه عاش عندما رجع إلى أبيه (لوقا 15: 24). إنّ الحياة الّتي يعيشها التّائب بعد عودته، ليست الحياة العاديّة الأرضيّة المهزومة الّتي كان يحياها فيما مضى، بل هي الحياة الفيّاضة الّتي وعد بها يسوع، “وأمّا أنا فقد أتَيت لتَكون لَهُم حياة ولِيَكون لهم أفضَل” (يوحنّا 10: 10).
هي حياة أبديّة مع الله
والحياة الحقيقيّة ليست فقط بالجسد أو بالإيمان على هذه الأرض فقط، بل هي حياة تستمرّ بعد الموت. يعرف كلّ إنسان هذه الحقيقة لأنّ الخالق وضع في قلوب النّاس الإحساس بالأبديّة (جامعة 3: 11). وهذا يتوافق مع وجود الإنسان الّذي لم يخلقه الرّبّ ليكون وقتيًّا وزائِلاً. وحدهم الملحِدون يُصرّون على رفض وجود حياة بعد الموت. واللاأدريّون يُحاولون عبثًا التّهرّب من حسم موقفهم في أيّ اتجاه. أمّا غالبية النّاس، فتعرف أنّها ستنتطلق من هنا لتستمرّ هناك في مكان ما وحالة ما. مَن يقرأ الكتاب المقدّس يرَ أنّ الإنسان مخلوق لِيَحيا إلى الأبد، وهو لا ينتهي بعد الموت. لذا، يرجو المؤمن أن يكون له حياة أبديّة مع إلهه بعد انتقاله من هذه الأرض. أمّا مَن يتمسّك بهذه الحياة الأرضيّة فستخذله لا محالة عند موته. فالحياة لا تُمسَك، وهي تظهر كالبخار وتضمحِلّ سريعًا. لذا اعتبر بولس أنّه إن كان له رجاء فقط في هذه الحياة فهو أشقى جميع النّاس (1كورنثوس 15: 19).
من الضروريّ أن نلاحظ أنّه عندما يتكلّم الإنجيل على الحياة الأبديّة فهو لا يتكلّم على “رجاء بالحياة الأبديّة”، بل على “حياة أبديّة حقيقيّة”. فالمسيح المُقام من الأموات، هو القيامة والحياة، ومَن يؤمن به يَنَل الحياة الأبديّة (يوحنّا 3: 25؛ 11: 25؛ 14: 6)، والّتي تبدأ من لحظة دخول المسيح إلى قلب الإنسان، وعندها يتيقّن مَن نالها من أنّ الله قادر على حفظ وديعته إلى الأبد (2تيموثاوس 1: 12). فالمسيح قام من الأموات، وبقيامته يترسّخ رجاؤنا بأبديّتنا معه ويتقوّى. وعندها، تصبح كيفيّة انتقالنا إليه غير مهمّة، أكان ذلك بالعبور إليه أو بعودته إلينا، لأنّنا في كلا الحالتين قد حصلنا على الحياة الأبديّة معه.
يشرح الرّسول بولس المراحل الثّلاث الّتي تمرّ فيها حياتنا، فنحن نُخلق في هذه الحياة أمواتًا روحيًّا، ومن ثمّ نحيا روحيًّا عندما نَقبل المسيح، ونستمرّ في الحياة إلى أن ندخل المجد الأسنى عند ظهور المسيح: “لأنّكم قد مُتُّم وحياتُكُم مُستَتِرَة مع المسيح في الله. متَى أُظهِر المسيح حياتُنا، فحينَئِذٍ تُظهَرون أنتُم أيضًا معه في المجد” (كولوسّي 3: 3-4). وبينما نسير في زمان غربتنا على هذه البسيطة لا شيء يُعزّينا سوى الإيمان بالحياة الأبديّة، فحياتنا الأرضيّة تمرّ بسرعة من أمامنا ولا نستطيع إيقافها أو ابطاءها. ونرى النّاس يأتون ويذهبون أمامنا، ونعلم أنّه سيأتي اليوم الّذي فيه نفلت من هذا القفص، ونطير إلى رحب حياة أبديّة طالما انتظرناها. وإلى تلك اللّحظة، يُمسِك المؤمن بالحياة الأبديّة مطمئنًّا (1تيموثاوس 6: 12، 2تيموثاوس 1: 1)، فتُعطيه هذه الحياة فرحًا ومجدًا أبديًّا (2تيموثاوس 2: 10).
براهين الحياة الحقيقيّة
في الخلاصة، نُذكّر أنّه كما تبدأ الحياة بالجسد عند تكوين الجنين، ويُسمّيها الكتاب المقدّس أنّها الولادة الأولى، كذلك تبدأ الحياة الرّوحيّة بالولادة الثّانية من الرّوح القدس (يوحنّا 3: 3، 5). في هذه الولادة الرّوحيّة يكتشف الإنسان الحياة الحقيقيّة مع المسيح الّذي جاء ليكون للنّاس حياة ويكون لهم أفضل (يوحنّا 10: 10).
ولا يكفي الادّعاء بوجود اختبار روحيّ ما مع المسيح، بل يجب وجود براهين مُعيّنة تؤكّد وجود حياة حقيقيّة معه. من هذه البراهين: تأجّج الرّغبة في الصّلاة والمثابرة على قراءة كلمة الله والشّهادة للمسيح والسّلوك المقدّس والأمانة في التّعامل مع الآخرين، وأمور غيرها. لكن تبقى المحبّة على رأس البراهين لوجود “الحياة الحقيقيّة”. فمَن يثبت في محبّته لله، يؤكّد أنّه ثابت في الله كما الغصن في الكرمة (يوحنّا 15: 1-9)؛ وتنعكس محبّة الله العموديّة بمحبّة أفقيّة عمليّة لإخوتنا البشر، تؤكّد أنّنا وُلِدنا من الله واختبرنا الحياة الحقيقيّة (1يوحنّا 4: 7). وتبقى محبّة المؤمنين بالمسيح لبعضهم الآخر هي البرهان الأقوى للولادة الثّانية ونوال الحياة الأبديّة (1يوحنّا 3: 14-15).
ولئلاّ يُظنّ أنّ عيش المحبّة هو الّذي يؤدّي إلى الحياة المسيحيّة الحقيقيّة، مرّة أخرى نُشدّد على أنّ الولادة من فوق هي الّتي تُعطي الحياة الجديدة، والّتي من علاماتها المحبّة. هذا الابن الضّالّ، كان لا بُدّ من أن يعود إلى بيت أبيه ليجد حياة جديدة فاضلة عنده. وعندما رجع، استقبله أبوه وقال: “إبني هذا كان ميتًا فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد” (لوقا 15: 24). وهكذا، مَن يعود إلى المسيح ويضع نفسه تحت سيادته، يَحيا، وذلك ليس من ذاته، بل من إلهه الّذي يحييه (رومية 14: 7- 8).
وفي الختام، لا بدّ من التّنبيه أنّ الحياة الدّينيّة، أو بتعبير آخر الممارسات الدّينيّة، لا تُعطي حياة أبديّة (غلاطية 3: 21). كثيرون يُخطئون إذ يظنّون انّهم، بممارسة أعمال التّقوى، يحيَون. يُخفِق هؤلاء إذ لا يُدركون أنّ الله كشخص، دون سواه، هو مَن يُعطي حياة لأجسادنا المائِتة، “وإن كان روح الّذي أقامَ يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالّذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه السّاكِن فيكم” (رومية 8: 11). الحياة الحقيقيّة تأتي من رئيس الحياة وليس بجهد يفعله المائت لنفسه، إذ يعجز عن إحياء نفسه. يُلخّص الكتاب المقدّس هذه الحقيقة بقوله: “أمّا البارّ فبالإيمان يَحيا”. مَن يشتاق إلى الحياة الحقيقيّة يطلبها من رئيس الحياة بإيمان.