عندما نفتكر بأسباب حصول الإصلاح الإنجيلي في العام 1517، لا ننسى أنه في صلب مسبباته كان موضوع بيع صكوك الغفران. وكان المرء يدفع مالاً أو يعطي أرضًا للكنيسة ويكون له بالمقابل صك غفران كامل او جزئي عن روحه بعد الممات أو عن روح أنسبائه الذين سبقوه لدنيا الآخرة. كانت الحاجة المادية لإنهاء بناء كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان ضاغطة فكانت الفكرة البديعة التي تخاطب خوف الإنسان من الذهاب بلا رجاء إلى الآخرة، أو خوفه من قضاء مئات السنين في المطهر، فذهب مندوبو البابا ليو العاشر يعطون تأكيدات خلاص لمن يرغب مقابل دفع أثمان نقدية. وكانت الأثمان تُحدّد حسب الشاري ومقامه الإجتماعي أو حسب ما يقدر أن يدفع. وكانت الصكوك بمعظمها مرتبطة بمهل وبعدد من السنوات: كأن يشتري الإنسان تخفيض 40 سنة من المطهر، ومن ثم يشتري غيرها، وهكذا…
وكان هناك راهب دومينيكاني اسمه تيتزل (1465-1519)، هذا سافر من مدينة لأخرى في المانيا، يعظ عن الغفران ويبيع الصكوك التي يعود مردودها لبناء الكنيسة في روما. ومن مواعظ تيتزل نقرأ التالي:
“اسمعوا نداء الله والقديس بطرس. انتبهوا لموضوع خلاص نفوسكم… اسمعوا من بعيد أصوات أحبائكم وأصدقائكم الموتى يرجونكم قائلين: اشفقوا علينا، اشفقوا علينا. نحن في عذاب شديد. انتم قادرون ان ترحمونا بمبلغ بسيط. ألا ترغبون بذلك؟ ألا يسمع الإبن صوت أبيه والإبنة صوت أمها؟ نحن أتينا بكم للحياة، ربيناكم، وتركنا لكم ثرواتنا، وأنتم قسوتم علينا لدرجة أنكم الآن لا تريدون أن تُحررونا مقابل القليل؟ أتريدون إبقاءنا هنا في لهيب النار؟ أتؤخرون سماء المجد عنا؟”
وكان الواعظ يقول للناس: “حالما يرن الفلوران المعدني في صندوقة العطايا، تُزهر روح الميت في المطهر… أتبخل بربع فلوران تدفعه فتنال صك غفران بإمكانك به ان تقود نفساً أزلية إلى جنة الآب؟”
نرى في لبّ هذا الوعظ اللعب على حاجة الإنسان لتأكيد غفران خطاياه وضمان أبديته. وكان هذا الموضوع قد شغل بال الناس في القرون الوسطى أكثر من أي وقت مضى. وكان السؤال: “ماذا ينبغي ان أفعل لكي أخلص؟” هو السؤال الأبرز الذي طرحه سجان فيلبي على بولس، وكذا طرحه المخلصون الذين يبحثون عن خلاصهم عبر كل العصور. وطبعاً للناس ثقة بالكنيسة وبرجال الدين وبأجوبتهم. يأخذون ما يقولونه بثقة وبإيمان. وفي تلك العصور لم يكن هناك نقاش حول صحة ما يقولونه. واليوم أيضًا كثيرون لا يناقشون بل يُسلّمون الأمر لمعلمي الدين بثقة عمياء.
السؤال الأهم: كيف أخلص؟
ماذا ينبغي ان أفعل لكي أخلص؟ يُقدّم بولس الرسول في إجابته على هذا السؤال العناصر التالية: (1) عليّ أن أعرف أني خاطئ (2) وعليّ أن أعترف أني بحاجة لخلاص (3) وأنه يوجد مخلص (4) وأنه يعطي الخلاص، (4) وأنه يجب ان يقلق بالي وأطلبه وآخذه منه. لا يمكن لمن لا يعرف أنه خاطئ ولمن يظن نفسه أنه “ابن عيلة” ومتدين وصاحب برّ عارم، أن يعترف أنه خاطئ. هذه مشكلة كبيرة تقف في درب معرفة الذات التي طالبت الحكمة القديمة الإنسان أن يعرفها: “يا انسان اعرف نفسك!” تتوقف عملية البحث عن الخلاص واختباره عندما لا أعترف أني خاطئ وبحاجة لخلاص. نظرة الإنسان إلى نفسه تُسبّب له مشكلة كبيرة فلا يعود يعرف ما هي حاجته الأساسية، أو قل مصيبته الأساسية، ولا يعرف كيفية معالجتها.
من هنا نرى أنه لا بد من معرفة الذات ومعرفة لله ومعرفة كيف يتعامل الله مع النفس البشرية. الإصلاح الإنجيلي أتى بمعرفة واقعية وصادقة وصحيحة للذات البشرية. حيث عرف أبوي الإصلاح، لوثر أو كالفن، أنهما بحاجة لخلاص، وأن الله هو المخلّص وأنّه بدون الله لا يستطيعان اختبار الخلاص.
درس كل منهما موضوع الخلاص لوحده وقارنه بما كان رائجاً ومعروضاً عليهما وعلما، وذلك على ضوء كلمة الله، أن الإنسان هالك وأن لا خلاص له دون الله. وأن الله المخلّص يهب الخلاص مجاناً للإنسان عبر المسيح مباشرة. لقد كان واضحاً لهما في كلمة الله، ومن الصفحة الأولى فيها، ومن قصة السقوط في الجنة، أن الإنسان ابتعد عن الله، وهو عاجز عن أن يُعيد وصل ما انقطع مع خالقه، وهو يحتاج للخالق ليصفح له وليُعيده للشركة معه. وفي قصة السقوط نرى أن الإنسان قادر ان يعصي وأن يسقط بالخطية، لكنه عاجز كلياً عن ردّ نفسه لحضن الآب. إنه لا رجاء للإنسان دون إرادة الله ونعمته وعمل رحمته.
الخلاص ينزل من فوق
من هنا نرى أن الخلاص يرتكز على برّ الله وليس على أي برّ بشري. المبرِّر هو الله. الخاطي هو المدان. المدان لا يستطيع أن يُبرّر نفسه، بل يحتاج لتبرير إلهي له ليختبر الخلاص أو الغفران الإلهي. هذا لا يأتي من أفكارنا الدينية ولا يصير بالمال، ولا بأعمال التقوى، ولا بانتمائنا الطائفي، ولا بأي عمل صلاح يقوم به الخاطئ أو بثقة يضعها بإنسان أو بجماعة بشرية أو بطقس ما. وحده من يطلب وجه الغفور ويعود إليه ينال غفرانه. وما يعيد الإنسان إلى خالقه هو عمل نعمة الله المخلصة المباشرة في القلب البشري. هذه عطية إلهية (النعمة)، تأتي بعجيبة إلهية (الخلاص)، للإنسان المخلوق من الله، وذلك بحسب ما شرح بولس: “بالنعمة أنتم مخلصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية الله”. (أف 2: 5).
إذاً الخلاص ليس وعداً يأتي من أحد، ولا وهماً أو معتقداً يتمسّك به الإنسان، وهو شيء يأتي من خارج الإنسان، من الله، ويدخل الإنسان ويستقر به، وذلك لحظة الإيمان بالمسيح ويستمر فيه بواسطة المسيح. فَهِمَ كل من لوثر وكالفن معنى قول بولس: “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ.” (غل 2: 20) أو “لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ” (في 1: 21). فتمسّكا بأن الخلاص هو بالمسيح لا سواه، والحياة الروحية هي بالمسيح لا سواه، وأن الهدف من هذه الحياة هو تمجيد المسيح لا سواه.
سأل سجّان فيلبي الرسول بولس: “ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟” أجابه: “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص”. هذا هو الجواب الحق والعملي واليقين. لا يمكنك أن تعمل شيئاً سوى أن تُسلّم حياتك لمن يقدر أن يُخلّصك ويُبررك ويُحييك. المسيح مسؤول عن خلاصك. المسيح وحده يمنحك خلاصه. والمسيح وحده يضمن خلاصك. فما لم تقبل نعمة المسيح ورحمته وشخصه وخلاصه لا خلاص لك ولا حياة أبدية، أنت تهلك بخطاياك.
يذكر التاريخ أنّه كان لكالفن ابن خال واسمه بيار روبير اوليفتان، هذا كان متعلماً وابتدأ مشروع ترجمة الكتاب المقدس إلى الفرنسية من اللغات الأصلية. هذا جاء مرة إلى زيارة كالفن، طالب القانون، وقال له: “هناك ديانتان في العالم، الفئة الأولى وتضم جميع الديانات التي اخترعها الناس وفيها يُخلّص الإنسان نفسه بطقوس وبأعمال صالحة، وهناك ديانة اخرى معلنة في الكتاب المقدس، وهي التي تعلّم الإنسان أن الخلاص هو بنعمة الله المجانية”. هنا صرخ كالفن بوجهه، وقال له: “أنا لا أؤمن بتعاليمك. وهل تظن أني سأعيش بالخطية كل أيام حياتي؟” فتركه قريبه ورحل، وبعد ان أقفل الباب خلفه، انفجر كالفن بالبكاء وركع على قدميه، وابتدأ يُصلّي ويطلب من الله أن يزيل الشكوك من فكره والإضطراب من قلبه. يذكر كالفن في تفسيره للمزامير أن الله افتقده بينما كان يتأمل بكلمته، ويقول: “وكأن ومضة ضوء نزلت إليّ فأدركت كوني في هاوية اخطاء عميقة وفي تشويش كامل” وهكذا اعطاه الله اختبار الخلاص بالنعمة فآمن بالمسيح وتحرر من جميع ممارسات التكفير والشفاعة التي اعتمدها سابقاً. وكان ذلك في العام 1533.
المسيح وحده المخلص الوحيد
نعم إنه حضور المسيح المحيي الذي يجعل المؤمن يختبر الغفران والخلاص والحياة. هناك قوة في المسيح لا يقدر أحد أن يمتلكها ولا أن يختزنها ولا أن يمنحها للخطاة. إنها قوة الخلاص الإلهي. تحريرنا من الخطية يأتي عبر حضور المسيح الحقيقي المُحرِّر من سلطان الخطية إلى قلب الإنسان المُحرَّر. هذا ما قاله المسيح: “ان حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون احراراً” (يو 8: 36). هذا هو أهم ما اكتشفه الإصلاح الإنجيلي في موضوع الخلاص. ان الإنسان الخاطي يقدر ان يختبر الخلاص بالمسيح. بالمسيح وحده وبعمله وحده ومباشرة منه. قد يكون هناك انجازات عديدة أتى بها الإصلاح الإنجيلي، لكن يبقى إعادة اكتشاف الخلاص بالتبرير بالإيمان بيسوع هو الإكتشاف الأهم. فيوم اختبر الراهب الأغوسطيني مارتن لوثر الخلاص بالإيمان بيسوع اختبر التبرير من خطاياه وصار له سلام عجيب وعميق مع الله. ويوم اختبر المحامي الفرنسي جون كالفن النعمة المبررة عرف أنه نال الغفران مباشرة من عدالة السماء فلم يعد قلقاً ولا مداناً ولا مطالباً ولا هالكاً.
إن موضوع خلاص الإنسان ليس بالموضوع البسيط ولا بالموضوع السخيف والرخيص. هذا هو محور اهتمام الإصلاح الإنجيلي، وهو ان يعرف كل إنسان كيف بإمكانه أن يخلص، وأن هذا الخلاص هو بالمسيح، ويحاول حثّه على قبول الخلاص بالمسيح، الذي “ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أعطيَ بين الناس، به ينبغي أن نخلص” (أع 4: 12).