عبَّر مارتن لوثر عن تقديره العميق لصديق العمر جوهان فون ستوبتز بقوله المأثور: “لولا جوهان، لما استطعت تحقيق كلّ هذه النجاحات في حياتي”. كان هذا الرجل، أي جوهان فون ستوبتز، كاهنًا أوغسطينيًّا في جامعة فيتنبرغ الألمانية عندما التقى بلوثر الذي دُعي للتعليم هناك. كان يُخالج مارتن لوثر في ذلك الوقت صراعٌ داخلي عميق يتعلّق بالاعتراف الكامل بأخطائه في حياته وكيفية ممارساته الدينيّة والأخلاقيّة. وعندما تعرّف إلى جوهان فون ستوبتز، أفصح عن مكنونات قلبه إليه حتى أرهق مسامعه بتفاصيل حياته الكثيرة. وفي إحدى المرات، استمرَّ الحديث بينهما عن الإيمان والخلاص بالرّبّ يسوع المسيح ساعات طويلة كانت كافية لتوطيد أواصر الصداقة بينهما، وهكذا ولِدت عن قناعة راسخة علاقة المودَّة والاحترام بينهما والتي أسّست لدورهما الريادي في توطيد مفهوم الإصلاح الإنجيليّ فيما بعد.
أثر النعمة الإلهيّة
وفي معرض حديثهما الفلسفيّ واللّاهوتيّ، تكلَّم جوهان عن النعمة الإلهية والمحبَّة السامية التي سرعان ما أسرت فكر مارتن لوثر وحرَّكت مشاعر قلبه وعواطفه نحو الله، إلا أنّه ظلَّ متحفِّظًا. “ينبغي أن تستسلم بالكامل لمحبَّة الله” – هكذا كان ينصح جوهان صديقه الجديد باستمرار. أما مارتن لوثر ظنًّا منه أن التديُّن مسألة صعبة، لم يكن ليستوعب معنى الاستسلام الكامل لله ولمحبَّته. فما كان من جوهان فون ستوبتز إلّا أن بادره بالقول مجدَّدًا: “ما عليك إلا أن تحبَّ الرب وأن تخضع له”. لم يستطع لوثر الذي كان مأسورًا بالخوف والشكوك أن يتفاعل بإيجابيّة مطلقة مع هذا الموقف الجديد بل قاومه بشدَّة. لقد اختبر مارتن لوثر الكثير من المآسي في حياته حتى أنه تمنّى لو أنه لم يولد في كثير من المرات. فكان يُردِّد ويقول لصديقه: “كيف أستطيع أن أحبَّ الله بعد كلّ هذه المصاعب التي عانيتها؟” أما جوهان فون ستوبتز فلم يفشل بل استمرَّ مجاهدًا بإقناعه بكلمة الحقّ وأهميّة التسليم الكامل لله رغم المآسي ومصاعب الحياة المتنوعة.
“لا أستطيع أن أفهمك” ردَّ جوهان على مارتن لوثر ثم عاد وذكَّره بموت المسيح كفَّارة من أجل خطايا البشريّة. أما مارتن لوثر ولشدّة خوفه من الموت والدينونة فلم يكن في مقدوره أن يستسلم لإرادة الله في حياته، فظلَّ يقاوم هذه الفكرة معترضًا على فلسفة صديقه الجامعيّ. وعندما مرّت الأيام وأصبح الصراع الفكريّ والعقائديّ محتدمًا بينهما، قدّم جوهان فون ستوبتز استقالته من منصبه كأستاذ في اللاهوت وعيَّن مارتن لوثر مكانه بمبادرة أذهلت الكثيرين من أترابه. انكبَّ لوثر المعيَّن حديثًا كأستاذ جامعي على دراسة الكتاب المقدَّس وبدأ بتحضير الدراسات في عدد من الرسائل ومن بينها رومية وغلاطية. وفي محاضراته المبنيَّة على هاتين الرسالتين من العهد الجديد، استطاع مارتن لوثر أن يتوصَّل إلى القناعة الكاملة بأسس الإيمان والنعمة، فتغيَّرت حياته وإيمانه وهكذا أصبح من أشدِّ المدافعين عن الخلاص بالنعمة والإيمان.
أساس الكتاب المقدس
وأصبحت كلمة الله المدوّنة في الكتاب المقدَّس مصدر تعليمه وإيمانه بدل تعليم الآباء والكهنة ورجال الدين الذين أصبح تعليمهم في العديد من القضايا الروحيّة المهمّة خارج سياق الإرشاد الإلهي المدوّن في وحي الكتاب المعصوم. أما جوهان فون ستوبتز الذي لم يترك الكنيسة الكاثوليكيّة مطلقًا، فحافظ على صداقته مع مارتن لوثر. كان حاضرًا عندما طالب بابا روما لوثر أن يُنكر إيمانه ويُعلن ولاءه للكرسي الرسولي، لكنه أبى أن يتخلّى عنه. فما كان من جوهان فون ستاوبتز إلا وأن كتب كلمات مشجِّعة لصديقه القديم حاثًّا إياه على التمسُّك بكلمة الحق قائلا له: “العالم يكره الاعتراف بالحقّ، وبذلك هم يُنكرون الرب يسوع المسيح مصدر النعمة والحقّ؛ لولا الصليب – صليب المسيح المخلِّص – لما خَلُصنا بالنعمة، تلك النعمة التي نحن الآن مقيمون فيها”. “لأني لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنّه قوَّة الله للخلاص لكلّ مَن يؤمن” (رو 1: 16).
الكلمات الأخيرة
وفي إحدى المحطات الهامة والمفصلّية التي حكمت العلاقة بين الصديقين، اعترف جوهان فون ستوبتز بموقف مارتن لوثر الإصلاحي ونقل فكره التغييري إلى الكنيسة في روما. ازدادت الضغوطات عليه من قبل الكرسي الرسولي كي يُصلح ما أفسده مارتن لوثر، فما كان منه إلا أن تراجع عن موقعه الكنسي رافضًا الإساءة إلى فكر لوثر ومعتقداته الكتابيّة. في رسالته الأخيرة إلى صديق عمره، كتب جوهان فون ستوبتز هذه الكلمات المؤثِّرة: ’أنت تعلم أيها الأخ العزيز مقدار محبتي لك. أشجّعك أن تتذكّر الضعفاء بيننا – ضعفاء الإيمان والمعتقد – ولا تنسَ فعل الخير لأولئك الذين مات المسيح من أجلهم وافتداهم بالنعمة. نحن مديونون لك في إيمانك وفكرك الإصلاحي”.
توفي جوهان فون ستوبتز في 28 ديسمبر 1524 في مدينة سالزبورغ تاركًا وراءه العديد من المؤلفّات والكتب القيِّمة عن الإيمان والمحبّة، والكثير من هذه الكتب موجودة حاليًا في المكتبة البابوية. لم ينسَ مارتن لوثر كلمات صديقه التشجيعيّة ومواقفه الروحيّة الرائدة بل وصفه بالصديق الوفيّ الذي بسببه كانت النجاحات التي اختبرها في حياته سبب تغيير في الكثيرين وانطلاقة الإصلاح الإنجيلي في أرجاء المعمورة.