الرَّجاء المسيحيّ

 لم يتعامل جميع الفلاسفة، قديمًا، مع مفهوم "الرَّجاء" باحترام. فمنهم من استهزأ به ظانًّا أنّه الوهم الَّذي يعيش عليه الضعفاء، ومنهم من اتخذ منه موقفًا محايدًا من دون أن يرفضه أو يتبنّاه، ومنهم من عدَّه أمرًا شرّيرًا، في مقابل أخرين رأوا فيه خيرًا. ومنهم من رفّعه وقال إن الحياة من دونه لا تُطاق. أمّا لو عدنا إلى الكتاب المقدّس لوجدنا أنّ الرَّجاء في العهدين القديم والجديد مرتبطان بالله وهو من ميزات الحياة الرّوحيّة لدى المؤمنين به. حتّى أن بولس الرسول يرى أنّ الإنسان غير المؤمن هو بلا إله وبلا رجاء في العالم (أفسس 2: 12). أمّا الأنبياء، قديمًا، فكانوا جازمين بأن الرَّجاء الحقيقيّ هو في الله فحسب. فهو "رجاء إسرائيل ومخلّصه في الضّيق" (إرميا 14: 8). لذا لم يكن مسموحًا للمؤمن، أيّام الصعوبات، أن يُعاني ويفقد الأمل بوجود إله الرَّجاء إلى جانبه. "إِنَّمَا ِللهِ انْتَظِرِي يَا نَفْسِي، لأَنَّ مِنْ قِبَلِهِ رَجَائِي. إِنَّمَا هُوَ صَخْرَتِي وَخَلَاصِي، مَلْجَإِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ." (مزمور 62: 5-6). هل كان الله رجاءً لشعبه في زمن ارتحالهم في الأرض فحسب؟ أم كانوا يرجون منه الحياة معه في الآخرة أيضًا؟ إنّ الإيمان بيوم القيامة دفع الآباء إلى الرَّجاء بيوم عظيم، تستيقظ فيه نفوس الرّاقدين في تراب الأرض إلى الحياة الأبديّة (دانيال 12: 2).

المسيح رجاؤنا 

أمّا في العهد الجديد، فبولس يكون أكثر تحديدًا عندما يدعو الرّب يسوع المسيح بـِ"رجائنا" (1تيموثاوس 1: 1). المسيح هو رجاء المؤمنين، ورجاء الأمم، في التاريخ. ويختبر الإنسان هذا الرَّجاء في المسيح لحظة اختبار الإيمان به. "وَأَيْضًا يَقُولُ إِشَعْيَاءُ: سَيَكُونُ أَصْلُ يَسَّى (أي المسيح) وَالْقَائِمُ لِيَسُودَ عَلَى الأُمَمِ. عَلَيْهِ سَيَكُونُ رَجَاءُ الأُمَم. وَلْيَمْلأْكُمْ إِلَهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلَامٍ فِي الإِيمَانِ لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (رومية 15: 12-13). ويضع بولس الرَّجاء مع الإيمان والمحبّة كنِعمٍ أساسيّة في حياة المؤمنين (1كورنثوس 13: 13)، ولكن بما أنّ الإيمان ضروريّ للحياة على هذه الأرض، يبقى أن الرَّجاء ضروريّ للمستقبل وللآخرة. "لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلَكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟ وَلَكِنْ إِنْ كُنَّا نَرْجُو مَا لَسْنَا نَنْظُرُهُ فَإِنَّنَا نَتَوَقَّعُهُ بِالصَّبْرِ." (رومية 8: 24-25). لذا يستطيع المؤمن أن يطمئنّ ويتهلّل أنّه وعند موته "يسكن على رجاء" (أعمال 2: 26). 

الرَّجاء ميزة المسيحيّين

هذا الرَّجاء هو ما جمع المؤمنين بالمسيح وميّزهم عن غيرهم في وسط مجتمع استهزأ وما زال يستهزئ بالحياة الأخرى. فرجاء الحياة الأبديّة هو ما وعد به الله المنزّه عن الكذب مختاريه الَّذين آمنوا به (تيطس 1: 2). وهذا ما دفعهم ليحتملوا الضيق والاضطهادات بصبر مؤمنين بأن إلههم قادر على أن يُحوّل كلّ الأشياء لتعمل معًا للخير إذ يحبّونه (رومية 5: 3 و8: 28). أمّا على الصعيد الشخصيّ، فكان هناك أيضًا رجاء بالانتصار وبالقداسة الشخصيَّة يُساعد المؤمنين في جهادهم ضدّ الخطيَّة: "فَإِنَّنَا بِالرُّوحِ مِنَ الإِيمَانِ نَتَوَقَّعُ رَجَاءَ بِرٍّ" (غلاطية 5: 5). لم يكن الرَّجاء بالغلبة الرّوحيَّة والأخلاقيَّة من باب "أحلام اليقظة" الدينيّة الَّتي لا تتحقّق بل كان هذا يقينًا ثابتًا إذ يؤمنون بإله الرَّجاء. "وَرَبُّنَا نَفْسُهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَاللهُ أَبُونَا الَّذي أَحَبَّنَا وَأَعْطَانَا عَزَاءً أَبَدِيًّا وَرَجَاءً صَالِحًا بِالنِّعْمَةِ، يُعَزِّي قُلُوبَكُمْ وَيُثَبِّتُكُمْ فِي كُلِّ كَلَامٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ" (2تسالونيكي 2: 16-17). 

الرَّجاء وعودة المسيح ثانية

أمَّا ذروة الرَّجاء المسيحيّ فكان بانتظار عودة المسيح المظفَّرة، "مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ الْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ اللهِ الْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (تيطس 2: 13). هذه العودة مخفيّة عن الأمم، لكنّها مُعلَنة ومغروسة في قلوب المؤمنين بالمسيح وهي لا تُفارقهم، "الَّذينَ أرَادَ اللهُ أنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هَذَا السِّرِّ فِي الْأُمَمِ، الَّذي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ" (كولوسي 1: 27). هذا الرَّجاء بعودة المسيح يؤثّر في استقرار نفس المؤمن إذ يُدرك أنّ كلّ شيء سينتهي هنا، وسيأتي يوم ينتقل فيه إلى مكان أفضل. لذا فالمؤمن بالمسيح مدعو إلى أن يتمسّك بثقة الرَّجاء وافتخاره ثابتين إلى النهاية (عبرانيّين 3: 6)، إذ إن الله لا يُمكنه أن يخذله في الأمر. "حَتَّى بِأَمْرَيْنِ عَدِيمَيِ التَّغَيُّرِ، لاَ يُمْكِنُ أَنَّ اللهَ يَكْذِبُ فِيهِمَا، تَكُونُ لَنَا تَعْزِيَةٌ قَوِيَّةٌ، نَحْنُ الَّذينَ الْتَجَأْنَا لِنُمْسِكَ بِالرَّجَاءِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، الَّذي هُوَ لَنَا كَمِرْسَاةٍ لِلنَّفْسِ مُؤْتَمَنَةٍ وَثَابِتَةٍ، تَدْخُلُ إلى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا، صَائِرًا عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ، رَئِيسَ كَهَنَةٍ إلى الأَبَدِ" (عبرانيين 6: 18-20). يعيش المؤمنون بالمسيح على رجاء لا يراه العالم ولا يوافقهم عليه. حالهم كحال ابراهيم، قديمًا، وقد كان له الرَّجاء بالآخرة على عكس الرَّجاء الَّذي كان لأترابه بالأرض فحسب (رومية 4: 18). وانتقل هذا الرَّجاء من ابراهيم إلى المؤمنين بالمسيح ومنهم بولس الَّذي استهزأ به الصدِّيقيُّون الَّذين لم يؤمنوا بالقيامة واليوم الأخير، أمّا هو فتمسَّك بـِ"رجاء الوعد" إلى النهاية (أعمال 26: 6-7). ومثله المؤمنون يدعون من كلِّ قلوبهم: "ماراناثا" (أي "الرّب يأتي" 1كورنثوس 16: 22)، أو "آمين، تعال أيُّها الرّب يسوع!" (رؤيا 22: 20).

تأثير الرَّجاء في حياة المؤمنين

يبقى أن يعي جميع المؤمنين أن لهذا الرَّجاء تأثيرات مباشرة في سلوكيَّاتهم. فموضوع الرَّجاء بالآخرة ليس مُجرَّد ضمان لتأشيرة دخول إلى الموطن السَّماويّ فحسب، بل له انعكاسات مباشرة على الحياة الأرضيّة للمؤمن الَّذي يعيش في ظلال العودة الثَّانية للمسيح. فينتبه المؤمن إلى حياته ويسعى إلى أن يعيش حياة طاهرة مقدّسة. يقول يوحنا الحبيب في هذا الشأن: "وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هَذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ" (1يوحنا 3: 3). ولا يهمل حياته الرُّوحيّة ويُقوّي محبَّته لإخوته المؤمنين "من أجلِ الرَّجاء الموضوع له في السماوات" (كولوسي 1: 4). 

ويبقى أنّ رجاء المسيحيّين، وهو المسيح، يُعزّي قلوبهم ويُقوّيها في مواجهة العدو الأعتى، أي الموت، فلا يخافون منه ويرجون يوم لقاء المسيح، الأمر الَّذي لا يفقهه غير المؤمنين وبسببه يعيشون حزنًا عميقًا، كلّ مرّة يفقدون حبيبًا. يكتب بولس للمؤمنين الآتين من خلفيَّة يونانيّة لم تعرف يقين الحياة الأبديّة ليُعزّيَهم فيقول: ""ثُمَّ لَا أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لَا تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذينَ لَا رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذَلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. فَإِنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ الرَّبِّ لَا نَسْبِقُ الرَّاقِدِينَ. لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلَائِكَةٍ وَبُوقِ اللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلَاقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَذَا الْكَلَامِ." (1تسالونيكي 4: 13-18). هكذا يكون الرَّجاء بالمسيح رفيقًا في حياتنا الأرضيّة يوصلنا بالسلامة إلى دار الخلود.

الكلمات الدلالية