طبيعة الشّيطان وعمله
من يدرس موضوع الخطيّة ودوافعها، لا بدّ أن يطرح السّؤال: ما هو دور الشّيطان في عالم الخطيّة؟ لكن، قبل الإجابة عن هذا السّؤال، لا بدّ من القول إنّ النّاس، في أيّامنا، لا يميلون إلى الاعتراف بوجود الخطيّة ولا بوجود الشّيطان. فالخطيّة هي مُجرّد تقصير، والشّيطان هو فكرة أو مبدأ الشّرّ وليس شخصًا حقيقيًّا.
أمّا مَن يدرس الكتاب المقدّس فيعرف أنّ الشّيطان هو شخص حقيقيّ يحيا في عالمنا ويؤثّر فيه. فهو شخص حقيقيّ وذكيّ للغاية (حيّة ماكرة في 2كورنثوس 11: 3)، ذو إرادة (2تيموثاوس 2: 26)، يُخطّط بها (إشعياء 14: 13-14)، ويغضب (رؤيا 12: 17)، ويقوم بأعمال كالحرب (رؤيا 12: 17)، ويهاجم المؤمنين (لوقا 22: 31). ولو كان الشّيطان مُجرّد مبدأ الشّرّ، لما حسبه الرّبّ مسؤولاً عن أعماله ولما جازاه. “ثُمَّ يقولُ أيضًا للّذين عن اليسار: اذْهبوا عنّي يا ملاعين إلى النّار الأبديّة المُعَدَّة لإبليس وملائِكته” (متّى 25: 41). إنّ الله، كقاضٍ عادل، لا يقدر على أن يُمارس قضاءه على مبادئ وأفكار، بل على أشخاص يرتكبون الشّرّ.
أمّا الشّيطان أساسًا فهو ملاك (كروب) خلقه الله ليخضع له، وقد أثِم منذ لحظة تمرّده على الله (حزقيال 28: 14-15)، وخسر كلّ ما كان له من نقاوة ومقام رفيع، وهكذا صار فاسدًا وأثيمًا وظالِمًا (حزقيال 28: 15-16). وهو، من لحظة سقوطه، يستخدم قوّته لمحاربة الرّبّ وكلّ ما له. وإذ سقط إلى هذه الأرض، كما يقول الرّبّ يسوع في لوقا 10: 18، دُعيَ بـ”إله هذا الدّهر” و”رئيس سلطان الهواء” (2كورنثوس 4: 4؛ أفسس 2: 2). ومنذ ذلك الحين وهو يُسقط النّاس في الخطيّة ليصيروا مثله آثمين.
الشّيطان وخطايا النّاس
يصف الكتاب المقدّس الشّيطان بالمُضِلّ الّذي يُضلّ جميع النّاس، أفرادًا وجماعات، على الأرض (رؤيا 12: 9؛ 20: 3، 8). وقد يكون تنكُّر النّاس لوجود الشّيطان وعمله وعدم فهمهم لطبيعة الخطيّة هو نتيجة مباشرة لعمله التّضليليّ الّذي يمنعهم من معرفة هذه الحقائق الرّوحيّة. أمّا التّضليل الّذي يُمارسه فهو بجعله الخطيّة تبدو جذّابة للإنسان، فيشتهيها ويتناولها متغاضيًا عن نتائجها مهما كانت مكلفة وخطيرة ومؤلمة ومُدمّرة (تكوين 3: 1-7). وكان بعد أن سقط أبوانا الأوّلان، آدم وحوّاء، أن صار جميع النّاس تحت سلطان إبليس عاجزين عن أن يتصرّفوا بحريّة فلا يُخطئون (1يوحنّا 5: 19 ب). يصف بولس الرّسول النّاس الواقعين تحت سيطرة إبليس بأنّهم تحت “سلطان الظّلمة” (كولوسّي 1: 13). هؤلاء لا تُشرق عليهم شمس البِرّ (ملاخي 4: 2)، فهم في ظلمة دامسة تفرضها عليهم طبيعة إبليس الّذي يُعمي بصيرة النّاس فيحرمهم من معرفة طريق الخروج إلى الحريّة، ويمنعهم من التّجاوب مع رسالة الإنجيل ليخلصوا (2كورنثوس 4: 4). وبوضعهم هذا، يعجزون عن تحرير ذواتهم من قبضة عدوّهم المُمسِك بهم بقبضة حديديّة تستعبدهم وتذلّهم مدى الحياة. يصف “مارتن لوثر” إرادة الخطاة بأنّها مُستَعبَدة ولا تستطيع أن تفعل شيئًا لتتحرّر. فالنّاس أموات بالذّنوب والخطايا الّتي قتلتهم، وقتلت فيهم كلّ قدرة على رفض الشّرّ، فيتمكّن إبليس “رئيس سلطان الهواء، الرّوح الّذي يعمل الآن في أبناء المعصية” من أن يتسلّط عليهم عبر شهوات أجسادهم وأفكارهم الفاسدة الّتي تفرض عليهم أن يعملوا الخطيّة فيصيروا “بالطّبيعة أبناء الغضب” (أفسس 2: 1-3). لذلك، فالنّاس بحاجة إلى تدخّل مَن هو أقوى من الّذي يأسرهم، ليتحرّروا وينتصروا ويتمجّدوا (أو ليرتفعوا إلى المقام السّامي الّذي أراده الله لهم من البدء، والّذي ينالونه فقط بالإيمان بيسوع المسيح. اقرأ يوحنّا 8: 36).
الشّيطان وخطايا المؤمنين
والكتاب المقدّس يقول أنّ إبليس هو أحد أعداء المؤمن الثلاثة (الشيطان والعالم والجسد). وفعلاً، لا ينجو المؤمن، بعد خلاصه بالمسيح، من سهام إبليس الملتهبة (أفسس 6: 16-17). فالشّيطان يُبلي حسنًا بالعمل على الجسد والطّبيعة القديمة للمؤمن ليُعيده تحت سلطانه، فلا يهنأ عيشًا بسلام ونصرة مع المسيح. سبق للرّبّ وأنبأ التّلاميذ أنّ الشّيطان سيُهاجمهم ويُضعف إيمانهم قائلاً: “سمعان، سمعان، هوذا الشّيطانُ طلبكُم لكي يُغربلكم كالحنطة! ولكنّي طلبتُ من أجلِكَ لكي لا يفنى إيمانُكَ. وأنت متى رجعتَ ثبِّت إخوتك” (لوقا 22: 31-32). لقد وجّه الرّبّ هذا الكلام لبطرس، لأنّ هذا الأخير كان قد سبق وسمح للشّيطان بأن يستخدمه ويأسر فكره ويتسلّط على لسانه فيُعارض مشيئة الرّبّ، مِمّا اضطّر يسوع لأن يوبّخه قائلاً: “اذهب عنّي يا شيطان! أنت معثرةٌ لي، لأنّكَ لا تهتمُّ بما لله لكن بما للنّاس” (متّى 16: 23). وفي كلّ مرّة يسمح المؤمن لإبليس بأن يُحوّل قلبه ليهتمّ بما للنّاس وليس بما لله، فيُعارض مشيئة الله في حياته، يكون قد وضع نفسه تحت تصرّف إبليس الّذي يتكلّم أو يعمل من خلاله.
السّؤال هو: هل يمكن أن يسكن إبليس في المؤمن مُجدّدًا؟ نقرأ أنّ الشّيطان “ألقى في قلبِ يهوذا سمعان الأسخريوطيِّ أن يُسلّمَهُ” (يوحنّا 13: 2)، ومن ثمّ “دخل في يهوذا الّذي يُدعى الأسخريوطيّ، وهو من جملة التّلاميذ الإثني عشر. فمضى وتكلّمَ مع رؤساء الكهنةِ وقُوّادِ الجندِ كيفَ يُسلّمهُ إليهم. ففرحوا وعاهدوهُ أن يُعطوهُ فضّةً. فواعدهُم. وكان يطلُبُ فُرصةً ليُسلّمهُ إليهم خلوًا من جمع” (لوقا 22: 3-6؛ يوحنّا 13: 27). نرى أنّ يهوذا، الّذي كان مُعتَبرًا بين الاثني عشر، سمح للشّيطان بأن يدخله ويعمل به، فصار متعاونًا مع الشّيطان، يُخطّط لأذيّة يسوع مع الأشرار ويمضي شخصيًّا ويبيعه ويُسلّمه ليُصلب. حتّى أنّ يسوع وصفه بأنّه “شيطان” إذ أنّ إبليس كان يُحرّكه ويسكن فيه أيضًا (يوحنّا 6: 17، 70). ولنا في قصة حنانيّا وسفّيرة مثلاً آخر عن شخص سمح للشّيطان بأن يملأ قلبه فيكذب على الرّوح القدس (والكنيسة) ويختلس مالاً (أعمال 5: 3). فضح بطرس الرّسول حنانيّا، ولعلّه كان قادرًا على أن يستشعر حضور الشّيطان في حياة هذا الأخير لما له من خبرة شخصيّة في هذا المجال. كان جزاء حنانيّا وزوجته عقاب الموت، ليكون هناك خوف في كنيسة الله، فلا تتكرّر خطايا كهذه وتُخرب نقاوة الكنيسة مبكرًا. ماذا نستنتج من كلّ ما سبق؟ هل الشّيطان يدخل المؤمن ويسكن قلبه، أو يكتفي بمجرّد التّسلّط عليه وجعله يرتكب الخطايا؟ من الواضح جدًّا أنّ يهوذا الأسخريوطيّ لم يكن مؤمنًا حقيقيًّا، بل كان “ابن الهلاك”، إذ لم يكن له خلاص وهلك في خطاياه (يوحنّا 17: 12). أمّا بخصوص حنانيّا وسفّيرة، فلا يُمكننا أن نحسم إن كانا مؤمنين أم لا، وإن كانا بالتّالي قد هلكا أم لا. أمّا الواضح في قصّتهما فإنّهما سمحا لإبليس بأن يستخدمهما بقوّة. والأكيد في هذه الحوادث الثّلاث هو أنّ الشّيطان يُحاول أن يُسقط أولاد الله في الخطايا.
قد تطول هذه الفترة الّتي يعيشها المؤمن تحت تأثير إبليس، فيُرهَق روحيًّا. نقرأ عن امرأة “كان بها روحُ ضعفٍ ثماني عشرةَ سنةً، وكانت مُنحنية ولم تقدِر أن تنتصب البتّة” (لوقا 13: 11). قد يكون إبليس هو الّذي سبّب لها مرضًا جسديًّا أو نفسيًّا أو روحيًّا، مِمّا جعلها حتّى غير قادرة على أن تستقيم. هذه، لمّا رآها يسوع، دعاها وقال لها: “يا امرأةُ، إنّكِ محلولةٌ من ضَعفَك! ووضَعَ عليها يديه، ففي الحال استقامت ومجّدت الله” (لوقا 13: 12-13). وفي شرحهِ لما حصل، قال يسوع عنها: “وهذه، وهي ابنةُُ ابراهيمَ، قد ربطها الشّيطان ثماني عشرةَ سنةً، أما كان ينبغي أن تُحلَّ من هذا الرّباط؟” (لوقا 13: 16). نرى في هذه الحادثة أنّ المؤمن قد يقع تحت تأثير شّيطانيّ، أو حتّى أسر شيطانيّ، يُضعفه روحيًّا أو أخلاقيًّا لمدّة طويلة ويحتاج، ليتحرّر منه، إلى أن يضع المسيح يمينه الشّافية عليه. قد لا يقبل بعضهم هذا التّفسير، وقد يدفع هذا التّفسير بعضهم الآخر إلى مُمارسة أنواع من الصّلوات (التّقاسيم) لطرد إبليس Exorcismمن المؤمنين، الأمر الّذي يتنافى مع حقيقة مكوث الرّوح القدس في المؤمنين إلى الأبد (يوحنّا 14: 16-17).
مقاومة الشّيطان
ما هو الحلّ العمليّ ليَبقى المؤمن بمنأى عن تأثير الشّيطان؟ يقترح العهد الجديد خطوات عمليّة عديدة تُبقي المؤمن، الّذي اختبر التّحرير بيسوع، حرًّا، أو تُساعده على استعادة حريّته بعد هزيمة ما. من هذه الخطوات:
- طاعة الخير والابتعاد عن الشّرّ. إنّ التّدريب الّذي يخضع له المؤمن في سلوكه في طريق الحكمة الإلهيّة بعيدًا عن الخطيّة، يجعله يزداد مناعة وقوّة فلا يهزمه عدوّ النّفوس ويستعبده من جديد. يقول بولس الرّسول لأهل رومية: “لأنَّ طاعتَكُم ذاعت إلى الجميع، فأفرح أنا بكُم، وأُريد أن تكونوا حُكماء للخير وبُسطاءَ للشّرِّ. وإلهُ السّلام سيَسحق الشّيطانَ تحت أرجُلِكُم سريعًا” (رومية 16: 19-20). في كلّ مرّة يسمح المؤمن لنفسه بأن يضعف ويُذنب يطمع فيه الشّيطان ويُكرّر “زياراته” المزعجة له (2كورنثوس 2: 11). لهذا يطلب بولس أن لا نُعطي “علّة للمُقاوِم” (1تيموثاوس 5: 14). أمّا بعضهم فقد “انحرفوا وراء الشّيطان” من دون أن ينتبهوا لما يحصل في حياتهم (1تيموثاوس 5: 15).
- الصّوم والصّلاة. إنّ ديانتنا المعاصرة تُركّز كثيرًا على الأداء الاجتماعيّ والأدبيّ والنّفسيّ للمؤمن، مُهملة ممارسة وسائل التّقوى، أو ما يُعرف في تاريخ الإصلاح بـ”وسائط النّعمة”، ومنها الصّوم والصّلاة. يُوصي بولس الرّسول، في معالجته موضوع الخطايا الجنسيّة والخيانات الزّوجيّة وإساءة استخدام ممارسة الجنس بشكل عامّ، قائلاً: “ليتفرّغ المؤمنون للصّوم والصّلاة” لكي “لا يُجرّبهم الشّيطان” (1كورنثوس 7: 5). فإن شَعَر المؤمن بأنّه، بشكل من الأشكال، تحت تأثير شيطانيّ، وهذا يجب أن يكون شعوره في كلّ مرّة يرتكب فيها خطيّة أو خطايا من أيّ نوع كانت وبخاصّة إن كانت أخلاقيّة، فما عليهِ إلاّ أن يُعاجل إلى الصّوم والصّلاة ليتجنّب سهام الأثيم الّذي يُهاجمه بهدف استعباده (متّى 17: 21؛ مرقس 9: 29).
الصّمود الرّوحيّ والأخلاقيّ. على المؤمن أن يتمرّن على الصّمود في حلبة الصّراع ضدّ عدوّ النّفوس. لقد مدح الرّبّ ملاك كنيسة “برغامُس” على صموده، على الرّغم من أنّه كان يسكن “حيثُ كرسيُّ الشّيطان”، وهو كان متمسّكًا باسم يسوع، ولم يُنكر الإيمان حتّى في أصعب الأيّام الّتي كان فيها كثيرون يتراجعون ويسقطون (رؤيا 2: 13). بالفعل، هناك إمكانيّة للكثيرين أن لا يعرفوا “أعماق الشّيطان” فيغلبون باسم يسوع (رؤيا 2: 24). ليت المؤمن، في كلّ يوم يخرج فيه إلى العالم، يرجع فرحًا لأنّ الشّياطين تخضع له باسم يسوع (لوقا 10: 17). إنّ الصّمود يحتاج إلى المقاومة، ومن الواضح أنّ روح المقاومة قد ضعفت في عصرنا الحاليّ، على الرّغم من أنّ الأيّام ازدادات سوءًا، وإبليس يعمل بكلّ قوة كلّما تقدّمنا في الأيّام نحو نهاية التّاريخ البشريّ (2 تسالونيكي 2: 9).
ينصحنا يعقوب أخو الرّبّ قائلاً: “فاخضعوا لله. قاوِموا إبليس فيهرب منكم. اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم” (يعقوب 4: 7-8). هذا يحتاج إلى قلوب نقيّة طاهرة وموقف موحّد ثابت وقويّ تجاه الخطيّة ومع الله.