إنّ الحياة الرّوحيّة من دون صلاة هي كصحراء قاحلة غير متّصلة بالنّبع الإلهيّ الّذي يُزوّد الإنسان بحاجاته كافّة. لكنّ الإنسان، وبسبب السّقوط والخطيّة، لا يعرف الصّلاة الحقيقيّة، وإن كان لا يزال يشعر بحاجته إليها، وهذا يُبرّر تنوّع أشكال الصّلاة في مختلف المجتمعات البشريّة، فصلاة الوثنيّ هي تعبير عن حاجته إلى قدرة ما أو إلى إعانة شخص أرفع منه، كذلك صلاة الّذين يؤمنون بإله أو أكثر. والأشدّ غرابة في هذا المجال، هو أنّ الملحِد، وفي معظم الظّروف، يشعر بحاجته إلى إله ما، أو يتمنّى لو كان بإمكانه أن يطلب مُساعدة هذا الإله في وقت الضّيق. أمّا المؤمن بالمسيح، فيشعر بحاجته إلى الصّلاة من داخل نفسه. وهذا يُفسّر ذهاب التّلاميذ إلى المسيح، عندما كان يُصلّي، ليسألوه: “يا ربُّ، علِّمنا أن نُصلّيَ كما علّمَ يوحنّا أيضًا تلاميذَهُ” (لو 11: 1). والمسيح حتمًا، هو أفضل من يُعلّم الإنسان الصّلاة. فهو الرّبّ الّذي خلق هذه الحاجة إلى الصّلاة في حياة الإنسان، وهو الّذي مارسها في حياته الأرضيّة خير ممارسة.
“الصّلاة” بمعناها المعجميّ
في اللّغة العربيّة، وبحسب المنجد، الصّلاة هي “ارتفاع العقلُ إلى الله لكي نسجد لهُ ونشكره ونطلب معونته”، أمّا في اللّغة اليونانيّة، فالصّلاة “euche”، هي أفضل كلمة تصف الاتّصال بالله، وهي تتضمّن “التّعهّد” أمام الآلهة كما “الطّلب” إليها. وقد كان العالَم اليونانيّ مليئًا بقصص الآلهة والأساطير حولها، وقد رأى الوثنيّون، في تلك الأيّام الغابرة، أنّ الآلهة تُمسك بمصائرهم، ممّا يوجب استرضاؤها والطّلب إليها وتقديم الذّبائح لها. وفي دراسة لملاحم “هومير” نرى أنّ أبطاله وعَوا وجود الآلهة وشعروا بحاجتهم الماسّة إليها. وكانت الآلهة، في مفهوم “هومير” وأترابه، ذات ميزات ومشاعر ودوافع بشريّة، إلاّ أنّها كانت تجلس في مقام سام، وبالتّالي تفرض على عابديها وتطلب إليهم الخوف والاحترام والخضوع والتّبجيل. وكان المـُصلّون يسألون آلهتهم الحماية، والعون في الضّيقات، والبركات الضّروريّة للحياة (الصّحّة، الخصوبة، المياه، المال…)، كما كانوا يطلبون أيضًا الانتقام من الأعداء كجزء من تحقيق العدالة السّماويّة في الأرض.
تشهد الموجودات القديمة الّتي دُوِّنت عليها الصّلوات، أنّ القدماء اهتمّوا بطلب البركات الماديّة والغنى، والشّكر على الشّفاء، وعمل التّعاويذ للشّفاء وطرد الأرواح وممارسة الجنس. أمّا الشّعور بالذّنب والاعتراف بالخطيّة وطلب الغفران فلم يكن مُدرَكًا عند اليونانيّين، وغيرهم من الشّعوب القديمة. وكانت الصّلوات ترتفع لتكريس الإنسان لله ولشكره. عمومًا، لقد كانت الصّلوات أيّام الوثنيّين حاجة نفسيّة داخليّة غير مُفسّرة، لكنّها مُمارسة بشكل كبير وواسع.
“الصّلاة” في العهد القديم
يستخدم العهد القديم كلمات عديدة تعني “الصّلاة” مثل: “‘tr” و “pll”. أمّا الصّلاة إلى الله فتعني “الطّلب إليه”. كما أنّ الصّلاة تتضمّن التّمنّي، وتقديم الذّات، وطلب الرّضى الإلهيّ، وذلك عبر التّكلّم إلى الله أو الصّراخ إليه أو توجيه الصّلاة إليه. وإلى جانب “الصّلاة” تُستخدم كلمات مثل: “التّعظيم” و”التّرفيع” و”الاعتراف” و”الفرح”، وأفعال مثل: “أغنّي” و”أرنّم”، لتصف كلّها طرق الصّلاة المتنوّعة الّتي استخدمها مؤمنو العهد القديم. أمّا “السّجود” “hsthwh” بصلاة أو من دونها، فهو يُشير إلى العبادة (لا 26: 1؛ 2مل 5: 18). يوصي العهد القديم بعدم السّجود لتمثال أو صورة ما، بل لله وحده (خر 20: 5).
العهد القديم يطلب العبادة الحصريّة لله وحده، إذ هو الإله الحقيقيّ دون سواه. ويطلب إلى المؤمن أن يرتبط، عبر شعب الله، بإله يرتبط بشعبه بعهد وأمانة وصلاح. أمّا مواصفات الله وقدرته فهي الّتي تُحرّك عبادة المؤمنين في العهد القديم وصلواتهم. إنّ الإيمان بالله، في العهد القديم، هو الإيمان بالخالق الّذي خلق الأرض والسّماوات وكلّ ما فيهما، وهو، في الوقت نفسه، يحمل الكلّ بكلمة قدرته. وعلى الرّغم من أنّ الصّلاة تُخاطب إلهًا عظيمًا ومقتدرًا، إلاّ أنّ استجابتها تعتمد على حكمة الله وقصده. أمّا المؤمن فيعتمد على الله ويفرح به، وينخرط في العبادة كأسلوب يُظهِر فيه اعتماده الفعليّ على الرّبّ وكدليل على فرحه (اقرأ مز 149). ويبقى كتاب العهد القديم مرجعًا أساسيًّا لدراسة موضوع الصّلاة، ويُقدّم لنا صلوات رجال الله منذ “ابتُدِئَ أن يُدعى باسمِ الربِّ” (تك 4: 26)، بالإضافة إلى صلوات سفر المزامير، كنماذج حيّة تُساعد المؤمن على فهم الصّلوات والتّمرّس بها والتّشجّع بأنّ الله يستجيب له عندما يدعوه.
“الصّلاة” في العهد الجديد
يستخدم العهد الجديد الفعل “euchomai”، الموجود في 2كو 13: 7 “وأُصلّي إلى الله”، بمعنى توجيه الكلام والتّمنّي إلى الله في الوقت نفسه. فيما الفعل “proseuchomai” فهو يعني الصّلاة أي توجيه الكلام إلى الله؛ (رو 8: 26؛ أف 6: 18). أمّا الكلمة الأكثر استخدامًا فهي “proseuche”، وهي تعني “الصّلاة” كوسيلة اتّصال بالرّبّ أو تواصل معه، وفيها نرفع طلباتنا إليه، (مت 21: 22؛ لو 6: 12).
هكذا، نرى أنّ العهد الجديد يجعل من الصّلاة الوسيلة الّتي يلجأ إليها المؤمن ليُخاطب الله بها. وكان يسوع يواظب على الصّلاة وينسحب من وسط الجموع ليُصلّي مُنفردًا (مت 14: 23)، وفي بعض الأحيان، كان يقضي اللّيل كلّه مصلّيًا (لو 6: 12). لقد عرف المسيح أهميّة الصّلاة وضرورتها، ومارس الصّلاة وعلّمها لتلاميذه (لو 11: 1). وهو يُشجّع المؤمنين على الصّلاة لأنّ الله يسمع لهم، لذلك قال لهم: “كُلُّ ما تطلبونَهُ حينما تُصلّونَ، فآمِنوا أن تنالوهُ، فيكونَ لكُم” (مر 11: 24). هذا التّشجيع يبني الثّقة بالله، ويُشجّع المؤمنين على أن يُصلّوا لإلههم لأنّه يستجيب. ويؤكّد العهد الجديد أنّ الله القدير يسمع المؤمنين ويستجيب لهم، ويُكرمهم أكثر جدًّا ممّا يطلبون أو يفتكرون (أف 3: 20). لكنّ المشكلة تكمن في أنّ المؤمنين بالمسيح الّذين يتمتّعون بامتياز الصّلاة لإله يستجيب، “لا يطلبون”، وهم إن طلبوا لا يعرفون ما يجب أن يطلبوه (يع 4: 2).