المقدّمة
لا بدّ من أن نعترف بأنّنا نحتاج إلى تعلّم الصّلاة لأنّنا لا نعرف كيف وماذا نُصلّي. ويزداد الأمر صعوبة عندما نسمع صلوات الطّقوس الّتي نحتتها أيدي شعراء ولاهوتيّين كبار، أو تلك الّتي تطفر بها ألسنة أشخاص روحيّين مُلهَمين، فتعجز ألسنتنا عن التّعبير، ونقف صامتين عاجزين عن الصّلاة. من الضّروريّ أن نعلم أنّ تلاميذ المسيح، الّذين غاروا من تلاميذ يوحنّا المعمدان الّذين تعلّموا الصّلاة منه، جاءوا إلى المسيح ليتعلّموا منه الصّلاة. فكان لمّا فرغ من الصّلاة، أن سأله واحد من تلاميذه: “يا ربّ، علِّمنا أن نُصلّي”. وقد يكون هذا السّؤال أحد أهمّ الأسئلة الّتي يسألها الإنسان لإلهه. أمّا الرّبّ فقال لهم: “فصلّوا أنتُم هكذا…” وأعطى تلاميذه ما عُرِف فيما بعد بالصّلاة الرّبّانيّة (متّى 6: 9-11؛ لوقا 11: 1-4).
بعضهم يتمسّك بهذه الصّلاة كصلاة مسيحيّة أساسيّة تجب صلاتها دوريًّا، بينما يرى بعضهم الآخر أنّ هذه الصّلاة ليست للتّكرار، بل هي صلاة نموذجيّة، تُنسَج صلوات أخرى على منوالها، وذلك على أساس أنّ الرّبّ حذّر من تكرار الصّلوات كما يفعل الأمم (متّى 6: 7، 9). أمّا كاتب هذا المقال فيرى في كلمات المسيح “فَصَلّوا أنتُم هكذا” الأمرين معًا. يستطيع المؤمن أن يتعلّم الكثير منها بغية تحسين صلاته، كما يستطيع أن يتبارك كثيرًا عندما يُصلّيها كما هي. وقد كانت هذه الصّلاة سبب بركة لكلّ الأجيال المسيحيّة عبر التّاريخ.
دراسة هذه الصلاة تُرينا أنّها تنقسم إلى جزءين، كلّ منهما يتضمّن ثلاث طلبات، ندرس كلّ واحدة منها، ونرى ما أراده الرّبّ يسوع في صلواتنا.
الطّلبات الثّلاث الأولى: تتعلّق بتمجيد الرّبّ
أبانا الّذي في السّماوات. بحسب يسوع، إنّ الصّلاة يجب أن تكون فقط لله وليس للملائكة والأنبياء والقدّيسين. والجدير ذكره أنّ أحدًا لم يُخاطب الله في القديم كأب. أمّا يسوع، فأراد أن نُخاطب الله كالأب وهو قد ناداه هكذا (مرقس 14: 36). والمسيحيّون صاروا يستخدمون هذا التّعبير لما فيه من نعمة وإيمان وعلاقة طيبة بالآب. ونحن قد أخذنا روح التّبنّي الّذي به ندعو الله “يا أبّا (abba) الآب” (رومية 8: 15، غلاطية 4: 6). في هذه المقدّمة للصلاة الربّانيّة، يُدخلنا المسيح مباشرة صلب الإعلان الإلهيّ الّذي جاء لأجله، وهو أن يُعلِن لنا الآب. وفيها أيضًا مفهوم الفداء الّذي فيه حرّرنا من لعنة الخطيّة فصرنا أولادًا لله. وفي هذه العبارة نرى مفهوم الولادة الثّانية الّتي فيها يصير الإنسان ابنًا لله. وتوضّح لنا هذه المقدّمة محبّة الله والعلاقة الّتي يجب أن تنشأ بيننا وبينه. كذلك في استخدامنا صيغة الجمع “أبانا” وليس “أبي”، يُعلّمنا المسيح، عندما نُصلّي، أن نشمل في صلاتنا غيرنا من المؤمنين وغير المؤمنين، من الحاضرين معنا الصّلاة أو حتّى الغائبين عنها. في هذه الطّلبة تنتفي الأنانيّة في الطّلب، ويُحضِر المؤمن معه غيره أمام الآب السّماويّ. هكذا يتعلّم المؤمن أن يتشفّع بالآخر. ونرى في العبارة: “الّذي في السّماوات” اعترافًا منّا بأنّه يملأ الكون، وبأنّه السّيّد عليه وعلى نفوسنا، “أينَ أَذهَب من روحِك؟ ومن وجهِك أين أَهرُب؟ إنْ صَعِدتُ إلى السّماوات فأنتَ هناك، وإنْ فَرَشتُ في الهاويَة فها أنت” (مزمور 139: 7-8). في الحقيقة، إنّ هذه المقدّمة تُشكّل مدخلاً غنيًّا لباقي أجزاء الصّلاة وكلّ الإيمان المسيحيّ والحياة الرّوحيّة، وليس من العدل دراسة هذه المقدّمة بسرعة. لكن إن أردنا الإيجاز، لقلنا إنّنا، في هذه المقدّمة، نكتشف أبوّة الله ونتعلّم أن نتقدّم إليه كأبناء أحبّاء. تفقد الصّلاة فرحها ونضارتها إن كنّا نتقدّم من الله على أنّه مجرّد خالق. أمّا عندما نأتي إليه كأب، فنعرف أنّه بإمكاننا أن نكون صريحين ومخلصين وراغبين في أن يتعامل معنا كأب.
ليتقدّس اسمُك. الكلمة “قدّوس” هي إحدى الكلمات المركزيّة في العهد القديم. في الصّلاة علينا أن نعترف بأنّ الله هو “القدّوس”، وأن نطلب تقديس اسمه، أي ترفيعه وتوقيره. فإن قدّسنا اسمه قدّسنا شخصه، وهذا ما يُريده المسيح أن يتقدّس شخص الله وليس اسمه فقط. وكلّنا يعرف أنّ استخدام الاسم يُراد به الشّخص. ونسأل: كيف وبِمَن يتقدّس اسمه؟ هذا هو الموضوع الّذي يجب أن يشغل بالنا، وبالتّالي أن نطلبه. على الآب أن يتقدّس بأولاده، وذلك عبر تقديس حياتهم لأنّ اسمه دُعِي عليهم. إنّ المؤمن الّذي يُريد أن يُقدّس الله واسمه في حياته عليه أن يحرص على أن تكون كلّ تفاصيل حياته من النّوع الّذي يُكرّم الله ويُعلّي اسمه في الأرض. من الخطر أن يكون الموضوع مُجرّد ترداد صلاة من دون أن يكون في الحقيقة والفعل. وعندما تُدعم الحياة بالقداسة تصير صلوات المؤمن من النّوع الّذي يُقدّس اسم الله. صلّى يسوع: “أيُها الآب مَجِّد اسمك. فجاء صوتٌ من السّماء: مَجَّدت وأُمَجِّد أيضًا” (يوحنّا 12: 28).
ليأتِ ملكوتك. المؤمن يعيش في الأرض، ولكن هو ابن مملكة سماويّة يرأسها أبوه. عليه أن يكون مهتمًّا بصالح المملكة السّماويّة ويطلب لأجلها أوّلاً، “اطلُبوا أوّلاً ملكوت الله وبِرّه” (متّى 6: 33). لقد كانت المملكة همّ المسيح، ولأجلها جاء، وهي يجب أن تكون همّنا ولأجلها يجب أن نحيا ونطلب ونعمل. على المؤمن الّذي يُعاني ظلمة هذا الدّهر، أن يكون مهتمًّا بمجيء الملك وسيطرة مملكته. أمّا في هذه الطّلبة، فهناك بُعدان الأوّل راهن والثّاني مُستقبليّ. في البُعد الرّاهن، يطلب المؤمن ليتوسّع الملكوت في الأرض، وهذا مرتبط بعمليّة البشارة. إذًا، في صلب الصّلاة الرّبّانيّة، نحن نُصلّي لأجل انتشار الإنجيل وخلاص كثيرين وانضمامهم إلى الملكوت الرّوحيّ. أمّا في البُعد المستقبليّ، فيطلب المؤمن ليُؤسّس مُلك الله بقوّة في الأرض. والمسيح أراد أن يُريهم الملكوت (الإسكاتولوجيّ) آتيًا من السّماء إلى الأرض، فـ”قالَ لهم: الحقّ أقول لكم: إنّ مِن القيام ههُنا قَوْمًا لا يَذوقون الموت حتّى يرَوا مَلَكوت الله قد أتى بِقُوّة” (مرقس 9: 1). وهذا البُعد له شقّان: (1) شقّ يتعلّق بالملك الألفيّ الّذي فيه يؤسَّس ملكوت المسيح على الأرض بحسب رؤيا 20. وهذا أقرب تفسير من مضمون هذه الصّلاة، إذ يطلب المؤمن أن يملك الله على الأرض؛ (2) وشقّ نهائيّ له علاقة بالملكوت الأبديّ في السّماء، وهو مغموس في رؤيا متفائلة بمستقبل أبديّ للمؤمن مع الله وبشوق إليه.
لتكن مشيئتك كما في السّماء كذلك على الأرض. المؤمن الّذي يعرف أباه ويعرف كم أنّ بيته السّماويّ مُرتّب، يطلب مشيئته لحياته وللأرض الّتي يحيا فيها. وفي هذه الطّلبة يعترف المؤمن بأنّ السّماء، دائرة الملكوت العلويّ، تخضع لمشيئة الله. وهو يتمنّى من الكنيسة، حيث دائرة الملكوت على الأرض، أن تطلب مشيئة الله وتعمل بها. طبعًا هناك بُعد ثالث وهو الأرض، مسكن غير المؤمنين. ولهؤلاء، يطلب أن تكون مشيئة الله في حياتهم. وكأن هذه الطّلبة امتداد للطّلبة الّتي سبقتها. فيطلب لأهل الأرض أن يختبروا مشيئة الله من نحو خلاصهم وقداستهم وحياتهم لتكون مرضيّة أمام الله. يجب أن نطلب إذًا، لكلّ من الكنيسة وأهل الأرض، أن يعملوا مشيئة الله. فمن دون المشيئة الإلهيّة يضيع المؤمن وتخرب الأرض. أمّا في الصّلاة عينها فنرى أنّ المؤمن يطلب مشيئة الله لحياته أوّلاً، وهي الفضلى لديه، ويُفضّلها على “مشيئات الجسد والأفكار” أو مشيئات النّاس. ونرى في هذه الطّلبة أنّ المؤمن يُعلن اهتمامه بمشيئة أبيه، ورغبته في معرفتها، واستعداده لطاعتها، وبهذا يصير قدوة ويجتذب غيره لطاعة مشيئة الله. هذه الطّاعة تجعل المسيح ربًّا في حياتهم فينعمون بحياة أفضل تحت رعايته ومبادئه. (1كورنثوس 15: 25-28).
الطّلبات الثّلاث الثّانية: تتعلّق بحاجات الإنسان المادّيّة والرّوحيّة
خبزنا كفافنا أعطِنا اليومَ. بعدما أعطى المؤمن الرّبّ ما عليه إعطاؤه، يطلب إلى الرّبّ خبزه، الّذي لا خوف في أن يكون “الخبز” المُستخدَم على مائدة الطّعام. لقد خاف بعض المسيحيّين في القديم من هذه الحقيقة، وقالوا لا بدّ من أن تكون هذه الطّلبة هي “للخبز الرّوحيّ” أو خبز كلمة الله، فأضافوا على كلمة الخبز كلمة “الجوهريّ”. وقصد به “جيروم” (347-420 م) شخص المسيح إذ هو “الخبز السّماويّ”، فيما ظنّ غيره أنّه الخبز الّذي نتناوله على المائدة المقدّسة، أو أنّه الخبز الّذي سنتناوله في الملكوت (وهذا كان شوق المؤمنين، “فلمّا سمع ذلك واحدٌ من المُتّكئين قال له: طوبى لِمَن يأكل خبزًا في ملكوت الله” (لوقا 14: 15). لكن، في هذه الصّلاة، نرى أنّ المؤمن يعترف بأنّه يأخذ كلّ حاجاته من الآب الّذي منه كلّ شيء، وبأنّه لا يهتمّ في الحياة إلاّ بقوته اليوميّ، “إنْ كان لنا قوتٌ وكَسْوَة فلنَكتَف بِهِما” (1تيموثاوس 6: 4). هذا الأمر يُذكّرنا، يوميًّا، بأن نحيا حياة الشّبع والاكتفاء إذ نحن قد اتّكلنا على الرّبّ. واتّكالنا هذا يُحرّرنا من القلق على احتياجاتنا الأرضيّة، ويجعلنا نفكّر في أمور أسمى من السّعي للقمة العيش، فنهتمّ بأمور الله وملكوته أكثر ممّا نهتمّ بالأكل والشّرب.
واغفِر لنا ذنوبَنا كما نغفِرُ نحنُ أيضًا للمُذنِبين إلينا. كما إنّ الخبز هو حاجة الجسد، كذلك الغفران هو حاجة الرّوح والنّفس. فالإنسان يُخطئ في كلّ يوم، وهو بحاجة إلى الاعتراف بخطاياه والصّلاة لغفرانها كي تُغفَر له، لأنّ المسألة ليست مُجرّد انتماء يؤمّن للمؤمن استمراريّة الغفران بشكل دائم. “مَن يكتم خطاياه لا ينجَح، ومن يُقِرْ بها ويترُكُها يُرحَم” (أمثال 28: 13). ومع الغفران الّذي نأخذه من الآب، نتعلّم أن نغفر لِمَن يُذنِب إلينا. موضوع الغفران من الخطايا ودخول الحياة الأبديّة غير مشروط بمسامحة الآخر أوّلاً، بل هو نعمة من الله. تعلّمنا هذه الطّلبة أن نكون رحومين مع غيرنا، إذ لا يُمكن لنا، بعد أن نُقيّد قلوبنا بالحقد والكراهية، أن نطلب إلى الله الغفران. فمَن لا يُسامح يتعرّض للمحاسبة من الرّبّ، (اقرأ متّى 18: 23-35)، ويُشدّد المسيح: “فإنّه إنْ غَفَرتُم للنّاس زلاّتِهِم، يَغفِر لكم أيضًا أبوكُم السّماويّ” (متّى 6: 14-15)، “ومتى وقفتم تُصلّون، فاغْفِروا إن كان لكُم على أحدٍ شيء، لكي يَغفِر لكُم أيضًا أبوكُم الّذي في السّماوات زلاّتكم. وإنْ لم تَغفِروا أنتُم لا يَغفِرْ أبوكم الّذي في السّماوات أيضًا زلاّتكم” (مرقس 11: 25-26).
ولا تُدخلنا في تجربةٍ، لكن نجّنا من الشّرّير. بعد الاهتمام بالجسد، وبالرّوح، يجب أن نهتمّ بما يجب أن يُقلقنا يوميًّا، ألا وهو وجودنا في دائرة الخطر الحقيقيّ، تحت سهام إبليس الملتهبة. فنحن مُستهدفون، يوميًّا، من عدوّ شرس قويّ لا يرحَم، يُوقعنا في تجارب فيها حيلة، ويقع فيها الكبير والقويّ. ونحن الّذين اختبرنا غفران الخطايا يجب أن ننتبه من السّقوط مجدّدًا. وهذه الطّلبة لا تُشير إلى أنّ الله هو الّذي يُدخلنا في التّجارب، “فلا يَقُل أحدٌ إذا جُرِّب: إنّي أُجرَّب من قِبَل الله، لأنّ الله غير مُجرَّب بالشّرور، وهو لا يُجرِّب أحدًا” (يعقوب 1: 13)، وهو سيّد على ظروف حياتنا. إلاّ أنّنا نعترف فيها بأنّنا ضعفاء وميّالون للوقوع في التّجارب، إن هي أتتنا من إبليس أو النّاس، وفي هذا الاعتراف المخلِص الكثير من التّواضع. فالمؤمن يُصلّي: “يا ربّ، لا تسمح بأن نُجرَّب أو نقع في التّجربة”. وهذه الطّلبة تتضمّن ترجّي الرّبّ أن يسترنا ويُخبّئنا بستره، فلا نُخطئ إليه أو أمامه. إنّها طلبة مُلحّة يوميّة، إذ نحن مجرَّبون يوميًّا ممّا يجعلنا نصلّي: “يا ربّ، احمِنا من سهام إبليس، ولا تسمح له بأن يتمكّن من إصابتنا، أو بأن يُوقع بنا في أشراكه”. وهذا ما علّمنا إياه الرّبّ في جثسيماني، عندما قال للتّلاميذ: “اسهَروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة” (مرقس 14: 38). إنّها طلبة يجب أن نُصلّّيها بخاصّة عندما نشعر بأنّ إيماننا يمرّ في تجارب قاسية تُهدّده.
الخاتمة
“لأنَّ لكَ المُلكَ، والقوّة، والمجد، إلى الأبد”. هذه التّسبيحة “التّمجيديّة” للرّبّ هي خاتمة طبيعيّة لهذه الصّلاة النّموذجيّة. في “لكَ المُلك” يتعلّم المؤمن الاعتراف بأنّ الرّبّ هو “الملِك” الحقيقيّ الّذي معه أمره، وأنّه السّلطة المطلقة في العالم الطّبيعيّ والرّوحيّ وفي العالَمَين الحاضر والآتي. كما أنّ في الاعتراف “لك القوّة” تصريحًا بأنّه لن يتزعزع، إذ لله قوّة استجابة الصّلاة ومنحها للّذي يطلبها. وشعور المؤمن بقوّة الله يُقوّي إيمانه. وفي “لكَ المجد” نُعبّر عن أنّ طلب المجد ليس من أجل مجدنا، بل من أجل مجد الله إلى الأبد. و”الآمين” في الختام هي لنؤكّد الحصول على ما صلّينا من أجله. وأخيرًا، نُلاحظ أنّ هذه الصّلاة الّتي علّمها يسوع لتلاميذه لم يُصلِّها هو، بل تكلّم مع الآب بعبارة “أيّها الآب”، ومع تلاميذه بعبارة “أبي وأبيكم” (يوحنّا 20: 17)، وذلك لأنّه لم يُخطئ أبدًا، فكيف يقول: “واغفِر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نغفر…”؟ وتبقى هذه الصّلاة صلاة نموذجيّة مميّزة بمضمونها، يطلب فيها المؤمن المسيحيّ كلّ ما يحتاج إليه من أبيه.