هناك، في أرضٍ طيّبةٍ، على بُعدِ بضعة أميال إلى الشمال الشّرقيّ، يقطن أحبّاء لنا، ينفطر الفؤاد شوقًا إليهم. هم إخوةٌ لنا، لكنّنا لا نراهم كثيراً، بل نتواصل عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ. لقد حسموا أمرهم وقرّروا أن يُلازموا مدينتهم العريقة الشّهباء، حلب، وأن يتمسّكوا بتراب أرضهم على الرّغم من كلّ التّحدّيات.
في أحياءَ قديمةٍ قِدَم التّكوين، حيث تفوح رائحة الغار والزّيتون، تمسّك هؤلاء الودعاء بديارهم تمسّك الطّفل بأمّه. لقد رفضوا أن يحذوا حذو البعض من أقاربهم وأصدقائهم وأن يغادروا إلى شتات العالم كلاجئين، أو إلى بلاد قريبة كنازحين. آمنوا أنّ حبّهم لأرضهم وتشبّثهم بجذورهم هو وصيّة من الله، وأنّه أثمن بكثير من أيّ “فيزا” على جواز سفرهم أو أيّ مساعدات أُمميّة قد يحصلون عليها. لقد قررّوا، وكان ثمن قرارهم باهظًا جدًا. فالظّروف الإقتصاديّة صعبة، ومقوّمات الحياة الكريمة معدومة. ناهيك عن أمراض من هنا، وأوبئة من هناك. وإذا سألتهم عن أحوالهم، شكروا ربّهم. وإن مددْتَ لهم يد العون، أبت كرامتهم أن تسمح لهم بالإستجابة.
وبينما هم في ذروة المخاض، يئنّون من شدّة برد شباط، يأتيهم الزلزال المدمّر. يأتي ليهزّ جذوعهم ويقطَّع أوصالهم المتشعّبة في صميم تلك البقعة من الأرض، مدمّرًا القباب والقلاع، ومغيّرًا معالم أحياء بأكملها.
ينسحق قلبك، وتهرع إلى وسيلة تواصل للإطمئنان. وعندما تسمع أصواتهم المحبَّبة، تعلم أنّهم ما زالوا على قيد الحياة. المجد للَه فهو “يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كلَ طرقك.” ويطول الاتّصال، وتصغي لأخبار تدمي الأفئدة والعيون. فهناك عائلة بأكملها قضت تحت الرّكام حيث سكتت نبضات قلوبهم مع سكوت تكّات ساعة حائطهم المتوقفة عند الرابعة والثلث فجرًا. أمّا ذاك الجار الصّائغ الّذي نجا من الهزّة الأولى وهرع ليطمئنّ على مصدر رزقه، قضى في الهزَة الثانية. وحين يخبرونك أنَّ الطّابق العلويّ لمدرسة الأولاد قد انهار، تشكر الله أنَّ الزّلزال حصل فجراً وليس نهاراً!
وقبل أن تُنهي الإتّصال، تقترح عليهم مغادرة البلاد خوفاً من تردّدَات أخرى للزّلزال، وتطمئنهم أنَّ لهم مكان. فيكون الجواب: “إلهنا معنا! سنبقى هنا حتّى الساعة الرّابعة والثّلث من كلّ يوم. فتتيقَّن عندئذٍ أنَّ حدود صبرهم وإيمانهم هو الرّمق الأخير.