عند محاولتنا وضع أُطرٍ للأخلاق الإنسانيّة، نجد من السّهل أن نختار ما تحدّده القوانين المدنيّة التي تتطوّر بالتناغم مع حاجات المجتمع. فيقف الإنسان المسيحيّ مشدودًا بين أُطر قوانين المجتمع وضوابطه الأخلاقيّة، والتي تشتمل أمورًا قد تتعارض مع مبادئ الكتاب المقدّس.
في سنيّ المسيحيّة الأولى، كانت الكنيسة تهدف بشكل أساسيّ لتكريس الحياة للربّ وانتظار مجيئه الثاني. في تلك الفترة، كان دور المسيحيّين في المجتمع ضئيل لسبب الإضطهاد، ولأنهم رفضوا الإشتراك في الحياة السياسيّة والدينيّة التي كانت ترتبط بشدّة بالعبادة الوثنيّة. لكن عندما اتسعت البشارة وانضم الكثيرون إلى الإيمان المسيحيّ، اصدر قسطنطين مرسوم ميلانو عام 313م المرتبط بالتسامح الديني. هذا الأمر شجّع الوثنيّون للتحوّل إلى المسيحيّة بدافع مصلحيّ وليس إيمانيّ. وخصوصًا بعد أن قدّمت الامبراطورية الرومانية إعفاءات ضريبيّة للمسيحيّين. استمرت هذه المرحلة الانتقالية حتى عام 392م حين أصدر ثيودوسيوس الأول تشريعًا حظّر فيه الوثنيّة لتنطفىء بعده شعلتها. فجاء الوثنيّون الّذين اعتنقوا المسيحيّة بأخلاقيّات مجتمعهم السائدة في ذلك العصر ليدمجوها مع تعليم كلمة الرّبّ. هذا الأمر دفع الأمناء في الكنيسة لوضِع قواعد أخلاقيّة واضحة المعالم.
سلّطت تعاليم الكنيسة الضوء على أربع صفات أساسيّة وهي الإيمان، المحبة، الوداعة، والنقاوة الشخصيّة. فالإيمان هو ما يحدّد الهويّة المسيحيّة. هذا الإيمان يُنتِج المحبة للآخرين، والمحبة تلك، تُنتِج وداعة. أما من ناحية النقاوة الشخصيّة، فقد أهتمّت الكنيسة بوضع شروط مسلكيّة للمحافظة على نقاوة الإنسان، متأثّرة بالتقليد اليهوديّ والفلسفة اليونانيّة.
لكن بالرغم من قبول المجتمع المسيحيّ لصفات الإنسان المسيحيّ التي حدّدتها الكنيسة، إلّا أنه اختلف تطبيقها بين مجتمع وآخر. ففتح البعض باب التعديلات التي رأوها مناسِبة، مستفيدين مما اعتادوا عليه في مجتمعهم، مازجين تعليم الربّ مع عاداتهم. فاستخفّوا بالخطيّة على أنواعها بحجة النعمة المخلّصة. وآخرون غالوا بتزمّتهم وتشددهم المسلكي إلى حدّ أصبحت مخالفة الأُطر والضوابط، تَنزَع من الإنسان المسيحيّ صفة الإيمان، وتجرّده من حقوقه الكنسيّة، ليحيا بعدها في عذاب وألم وتبكيت الضّمير. فمُورِس التأديب الكنسي بمختلف اشكاله دون رحمة. هذا الأمر يقودنا للبحث عن الإطار الصحيح الذي يُحدِّد الأخلاقيّات المسيحيّة.
إن الله، خلق الإنسان على صورته ومثاله. هذه الصّورة تحمل في طيّاتها أخلاقًا مُثلى لأن الله هو صاحبها. عندما عصى الإنسان الربّ، فَقَدَ هذه الصّورة، وبالتالي، فَقَدَ الضوابط الأخلاقيّة معها. فها قايين ابن آدم باكورة الخليقة، لم يستطع أن يمنع نفسه عن قتل أخيه لمجرّد إغتياظه منه، ويكون بهذا رائدًا في خرق ضوابط الله الأخلاقية. إذًا، مهما حاول الانسان من وضع أُطر وضوابط بمجهوده الشخصيّ، لا يستطيع أن يصل إلى الصّورة التي خُلِقَ بها. بالنتيجة، لا يمكن للإنسان اعتماد ضوابط مجتمعه الأخلاقيّة حتى يُرضي الله لأنها لن تكون سامية. فمثلاً في بعض المجتمعات المعاصرة التي تعتبر نفسها رائدة في حماية الانسان وصيانة حقوقه، تحمي المساكنة وتدافع عن المثلية الجنسيّة. فكيف لهذه المجتمعات أن تنسجم ضوابطها الأخلاقيّة مع ضوابط تعليم الكتاب المقدّس الأخلاقيّة!
إن العودة إلى ضوابط الله الأخلاقيّة، استلزمت مجيء المسيح ليعيد الانسان إلى الصّورة التي كان بها قبل السقوط. فالمسيح، عندما جال بين الناس معلّمًا، وجّه فِكْرَهم إلى الصّورة الأخلاقيّة الأسمى وإلى قوّة الرّوح القدس الذي فيه يستطيع الإنسان أن يحيا في هذه الصورة. فمعرفة تعاليم المسيح كما أتت في الكتاب المقدّس، ومعرفة المسيح شخصيًّا، يعطي معرفة للضوابط الأخلاقيّة وقدرة للسلوك فيها. فبعودة الإنسان إلى الموقع والمكان الذي يريده الربّ له، يحيا هذا الإنسان في صورة المسيح الأخلاقيّة وصفاته التي تبقى وحدها ثابتة لا تتغيّر.