الطّفولة هي عالم المرح والبراءة والعفويّة، يركض إليها كلّ مَن أتعبه الزّمن. فتارةً يسافر بفكره إلى موطن ذكرياتٍ انطبعت بالهدوء، وطورًا يسـبر هذه المشاعر بين ضحكاتِ طفلٍ نسـتها أيّام الكبار.
كيف سأنسى كلمات ذلك الكهل حينما كان يخاطب زوجته متمنّيًا العودة للعيش في ضيعته السّابقة؟ بل لن يمحوَ الزَّمان من مخيِّلتي تفاصيل وجه امرأته الّتي تجلّت غير فاهمةٍ ما كان يكمن في كلام زوجها. وعلاوةً على ذلك، فلقد انبرت تضحك قائلةً: “اذهب إلى هناك، اذهب. وبعدها ستصدر صورتك على مواقع التّواصل الاجتماعي مُذيّلةً بأنّ هذا الرّجل مُصاب بالألزهايمر، الرّجاء ممن يتعرّف عليه، الاتّصال بنا ليرشدنا إلى مكانه”. وما انفكّ صوت القهقهة يصدح في أرجاء المنزل.
بالفعل، ولأوّل وهلةٍ، لن يترجم الفكر ما حاول كليم الإفصاح عنه. ولكن، عندما تنظر إلى عينيه الشّاردتين لا بُدَّ وأن ترى الحنين إلى طفولته القصيرة الأمد. كما أضفى صوت التّنهّد مدى أسفه حينما صُدِمَ بعدم فهم مشاعره المنهكة من أعباء تحمّل المسؤوليّة. فلقد كان يريد فقط الهروب إلى أيّامٍ تخلو من المتاعب.
فأحيانًا نخجل من الإفصاح عمّا يجول في داخلنا، لذلك نحاول إرسال عباراتٍ غير واضحة للسّامع. كما أنّنا ننتظر من الأشخاص المقرّبين فهمنا من دون إحراجنا بإخبارهم التّفاصيل.
أمّا إذا استمرّ البالغ بنهج حياةٍ تشوبها السّذاجة، عندئذٍ تُطرح إشكالية عدم النّضج. لقد مررت بأناسٍ شِبه جدرانٍ تنتظر ريشة الزّمن لِتَرسِـم خطوطاً جديدةً في سجلِّ عمرها، ولكنّها غفلت التّقدّم في مرحلة النّموّ. فكأنَّ الحياة تموّنَت تفاهةً لتحضن أطفالاً طفوليّين ينتظرون مناسبة عيد مولدهم من سنةٍ إلى سنة ليستمتعوا بتغيير زينة الاحتفال متناسين كم يلزم للمرء لكي يصبحَ إنساناً. يا عجبي كيف حوت الأيّام مَن لم يهتدِ إلى حكمة العمر!
فمن النّاحية الخارجيّة، يتّصف هؤلاء بشكلٍ يُلائمُ سنَّ حياتهم، فيخدعك ذلك المظهر المتناسق ويحملك لتظنَّ أنَّك أمام شخصيّة بارزة لن تستطيع الإفلات من محضرها، ولن يسهل عليك مغادرة مجلسها. بينما يصدمك أوّل موضوعٍ يحاول خوض غماره. حينئذٍ تنكشف مكامن شخصيّته الهشّة للسّامع.
فما بالك بحياة خلت من التقدّم نحو نضجٍ في مواقفها؟
لقد رسمت عمرها الأيّام بأرقامٍ ما أوقفها سوى حكم الموت.
وعلى مثال هؤلاء، يذكر الكتاب المقدّس في العهد القديم عن رجلٍ اسمه نابال، وحياته كانت كفيلةً للدّلالة على معنى اسمه، غبيّ، الّذي رفض مبادلة داود بجميله حين حفظ له ماشيته مع الرّعاة في جبل الكرمل. فتخاله كالطّفل الممسك بألعابه خوفًا من الأطفال الآخرين، أن يأخذوها منه، على غفلة. ولولا حكمة زوجته، أبيجايل، لما كفَّ داود يده عن إبادة نسله. إذ قد أسرعت بوفر من الطّعام لملاقاته، وحين رأته نزلت عن الحمار وسجدت أمامه قائلةً: “لاَ يَضَعَنَّ سَيِّدِي قَلْبَهُ عَلَى الرَّجُلِ اللَّئِيمِ هذَا، عَلَى نَابَالَ، لأَنَّ كَاسْمِهِ هكَذَا هُوَ. نَابَالُ اسْمُهُ وَالْحَمَاقَةُ عِنْدَهُ. وَأَنَا أَمَتَكَ لَمْ أَرَ غِلْمَانَ سَيِّدِي الَّذِينَ أَرْسَلْتَهُمْ.” (1 صموئيل25: 25).
ولا مناص من القول، شتّان ما بين البراءة والسّذاجة! فليستيقظ مَن خلع ثوب الوعي، وليشدّد نفسه بالحكمة والفهم، ريثما يكون فاعلًا في محيطه ومجتمعه.