يتعجّب كلّ من يقرأ سفر أعمال الرسل كيف أن لوقا الطبيب يذكر قصّة أهل صيدا وصور مع الملك هيرودس، وهي قصّة لا يبدو أنّها متعلّقة بالبشارة بشكل مباشر. وفي القصّة أنّ الملك كان ساخطًا على أهل تلك المدينتين الفينيقيّتين الّذين اعتاشوا من كورته. فحضروا إليه واستعطفوا المسؤول عن بيته. ويقول المفسّرون أنّهم “رشوه” ليُصالحهم مع الملك. وفي يوم مُعيّن لبس هيرودس الحلّة الملوكية المُرصّعة بصفائح الفضّة التي صارت تلمع تحت أشعّة الشمس، كما ذكر المؤرّخ يوسيفوس. وحالما ابتدأ يُخاطبهم صرخ الشعب: “هذا صوت إله لا صوت إنسان!” عندها ضرب ملاك الرّب الملك لأنه لم يُعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات (أعمال 12: 20-23).
يذكر لوقا هذه الحادثة ليُعلّم ثاوفيلس مستلم السفر، وكان ذا منصب رفيع في الدولة الرومانيّة التي ألّهت أمبراطورها، أنّ من يتبع المسيح لا يؤلّه أحدًا. والناس في كافّة المجتمعات يميلون إلى تأليه العظماء. وفي لبنان هناك ميل إلى هذا التأليه منذ أيّام مملكة صور الّتي قال ملكها عن نفسه: “أنا إله – وهو إنسان وليس إلهًا”، لذلك ضربه الرّب، وأتى أعداؤه وقتلوه (حزقيال 28: 1-8). في صور، تطوّرت قصّة المدينة المملكة ووُلدت قصة الملك الكاهن أو الملك الإله. وما زلنا حتّى اليوم، وفي كلّ المجتمعات، ننظر إلى الحاكم كأنّه إله أو “نصف إله”. فالقوميّات الأوروبية ألّهت الدولة والزّعيم، وبعدها الشيوعيّة ألّهت الحزب والقادة، والرأسماليّة ألهّت أغنياءها.
هناك سببان على الأقلّ كامنان خلف هذا التأليه، وهما: (1) الخطيّة الأولى كانت من إبليس الّذي أقنع آدم وحواء بأنّهما إذا عصيَا الرّبّ يصيران مثله في حكمتهما! وما زالت هذه الخطية في أساس خطايا البشريّة، ويُعبّر عنها بكبرياء النّاس وانتفاخهم؛ (2) السّبب الثاني، مرتبط بشوق الإنسان إلى حكم الله على الأرض، بحيث يتطلّع الإنسان ليرى الحاكم مشابهًا لله في عدالته وإنصافه. أمّا هيرودس فلم يكن يشبه الله بأيّ شكل من الأشكال. فهو حفيد هيرودس الكبير الذي قتل أطفال بيت لحم، وابن أخ هيرودس الثاني الذي قطع رأس المعمدان، وهو بدوره قطع رأس يعقوب وكاد يقطع رأس بطرس. عرف الفينيقيّون هذه كلّها، ومع ذلك قاموا يُردّدون له “الرديّات” وألّهوه وهم ما زالوا مستمرّين، حتى أيّامنا، في تعظيم الفاسدين والمجرمين. طبعًا هذا سلوك اجتماعي مريض. لقد كان الأجدى بهم أن يطلبوا مطلبهم المُحقّ من دون هذه المبالغة في التبجيل، والّتي سبّبت له الكبرياء والموت!
ولأن الإيمان المسيحي يُقدّم الدواء إلى البشر وإلى سلوكهم الخاطئ، يذكر لوقا الطبيب هذه القصّة ليُعلّم الأجيال إذ أنّ طبائع الشعوب وخطاياها تُتوارث من جيل إلى جيل، وتُرافق المجتمعات لعنة الأسلاف، التي لا تُفكّ عنهم إلاّ بقوّة الإنجيل المُحرّرة. وكبرهان على ذلك، يعود لوقا ويذكر أنّ الفينيقيّين استقبلوا المسيحيّين الأوائل الّذين تهجّروا إثر استشهاد استفانوس (11: 19)، كما يذكر أنّ قبولهم لبشارة المسيح قد سبّب سرورًا عظيمًا للكنيسة الأولى (15: 3)، وأنّهم سجدوا لله مع بولس على شاطئ صور (21: 4-5) واعتنوا به في صيدا (27: 3).
صحيح أنّ بطرس يوصي: “خافوا الله. أكرِموا الملك” (1بطرس 2: 17). إلاّ أنّه لا يدعونا إلى تمجيده، لأنّ التّمجيد هو فقط للإله الخالق. أمّا هيرودس فمات وأكله الدود، وهذا هو مصير الملوك والقادة قبله وبعده… فيما بقي اسم الرّب يُمجّد عبر العصور، وسيزداد مجدًا يوم ظهور يسوع “ملك الملوك وربّ الأرباب” لإعلان ملكه الذي لا يزول.