في زمن تقطّع أواصر القربى وتفتّت العلاقات الاجتماعيّة، هل يُمكن إعادة وصل ما انقطع وخلق نموذج أفضل؟
في أمسية من شتاء العام 1988، ذهبت إلى مطار بيروت لوداع قريبة لي. كانت المواقف مكتظّة، فركنتُ سيّارتي في زاوية بعيدة. رجعت بعد ساعة ووجدتُ العجلات الأماميّة منغرزة في حفرة من الطّين اللّزج والمواقف شبه فارغة. كانت السّاعة العاشرة ليلاً، والظّلام حالك والمطر ينهمر والأوضاع الأمنيّة لم تكن مطمئنة يومها. لم يكن استخدام الخلويّ منتشرًا بعد؛ فوقفت محتارًا مرتبكًا قلقًا وخائفًا! لا أجرؤ على ترك السيّارة أو النّوم فيها إلى اليوم الثّاني. فالتجأت إلى الصّلاة.
مرّت خمس وأربعون دقيقة خلتها دهرًا، وإذا بسيّارة مسرعة تقترب وتتوقّف إلى جانب سيّارتي. يترجّل منها شابّ طويل بثياب عسكريّة. ولما همّ بالانصراف تنبّه لي واقفًا في العتمة. تطلّع مستفهمًا، فأشرتُ إلى سيّارتي المنغرزة في الطّين. تقدّم وحاول مساعدتي لكنّه لم يفلح، فغادر. ثمّ عاد ومعه حبل ولوح خشبيّ. لا أنسى كيف نزل في الوحل والمطر ينهمر بغزارة، وراح يرفع الطّين ويمرّر لوح الخشب تحت الإطارات لمدّة تزيد على النّصف ساعة، إلى أن تمكّن أخيرًا من تحرير السيّارة. ثمّ اختفى قبل أن أشكره.
هذا الشّابّ هو “قريبي” بحسب تعليم يسوع في مثل السّامريّ الصّالح (لوقا 10: 25-37). القريب، في الكتاب المقدّس، ليس نسيبي أو جاري أو زميلي؛ بل هو شخصٌ يهتمّ بي ويقدِّم لي معونةً، أو شخص أهتمّ به وأسعفه في ضيقته.
التّعليم عن محبّة القريب
قبل صلبه بستّة أشهر، كان يسوع قريبًا من أورشليم وكان يواجه مقاومة شرسة من السّياسيّين ورجال الدّين. ووسط جوّ مليء بالتّحدّي، اقترب منه ناموسيّ وسأله: “يا معلِّم، ماذا أعمل لأَرث الحياة الأبديّة؟” أمّا النّاموسيّ، وهو من فئة الكتبة المتخصّصين في المناظرات ومناقشة القضايا الصّعبة، فقد قام ليمتحن يسوع في المعرفة الكتابيّة لكي يشتكي عليه. فأجابه يسوع: “ما هو مكتوب في النّاموس. كيف تقرأ؟” سؤال حكيم أشار به إلى أنّ الحياة الأبديّة تعتمد على طاعة كلّ وصايا الله. فردّ مُكلّمه من دون تردّد: “تحبّ الرّبّ إلهك من كلِّ قلبك ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ قدرتك ومن كلِّ فكرك وقريبك مثل نفسك”.
لم يتوقّع النّاموسيّ بعد ذلك ردًّا مختصَرًا ومُفحِمًا من يسوع الّذي قال له بسرعة: “بالصّواب أجبْت. افعل هذا فتَحيا”. صحيحٌ أنّ الإنسان لا يتبرّر أمام الله بحفظ الوصايا، بل بالنِّعمة والإيمان بيسوع، لكن عليه أن يبرهن ذلك بسلوك مفعَم بالمحبّة الإلهيّة. في المؤمن بالمسيح حافز قويّ ليُظهر محبّته للنّاس بأعمال الرّحمة وبالكلام المشجّع وبالصّلاة الدّاعمة.
كان هدف النّاموسيّ أن يوقِع بيسوع فوقع هو في الحيرة. لقد أضاء يسوع على ناحية مهمّة، وهي أنّ حفظ النّاموس ليس نشاطًا ذهنيًّا بل حياة نعيشها في البِرّ المتمثِّل بالعلاقة السّليمة مع الله ومع الآخرين. لم يقبل النّاموسيّ الهزيمة، وإذ أراد أن يبرِّر نفسه عاد وسأل: “مَنْ هو قريبِي؟”. إنّه يظنّ نفسه بارًّا لأنّ شريعة موسى لا تقدّم تعريفًا واضحًا للـ “القريب”. فقد يكون واحدًا من زملائه الكتبة أو الفرّيسيّين. هذا ما يفعله كلّ إنسان حين يواجه حقيقة تهزّه أو يقترف ذنبًا يثير ضميره، فبدلاً من مواجهة الأمر بموضوعيّة وشجاعة يحاول تبرير ذاته.
هنا يُجيبه يسوع بإيضاح وليس بتعريف أو تصريح أو سؤال. إنّ الطّريق المنحدرة من هضاب أورشليم إلى وادي أريحا متعرِّجة، وفيها الكثير من المخابئ حيث يختفي اللّصوص ليهاجموا المسافرين. وقع رجل بين أيديهم، فضربوه وأخذوا كلّ ما لديه حتّى ثيابه، ثمّ مضوا وتركوه فاقد الوعي على قارعة الطّريق. مرّ كاهن فرآه وجاز مقابله. لم يُرِد أن يتدخّل في مشكلة هذا الجريح، فانطلق وهو يتمتم: من الأفضل أن أبتعد فاللّصوص ما زالوا قريبين؛ على كلّ حال قد يكون ميّتا ولن أفيده بشيء. ولربّما احتجّ بأنّ موعده في أريحا مهمّ جدًّا، أو بالقول: مَن تدخّل في ما لا يعنيه سمع ما لا يُرضيه. تكفي أعذار كهذه إنسانًا لا يرغب في مساعدة محتاج. ثم تابع يسوع المثل قائلا: “كذلك لاويّ أيضًا، إذ صار عند المكان جاء ونظر وجاز مقابله.” اللاّويّ بدوره فضّل متابعة طريقه وكأنّه لم يرَ شيئا.
“لكنّ سامريًّا مسافرًا جاء إليه، ولَمّا رآه تحنّن”. والسّامريّون هم أحفاد اليهود الّذين تزاوجوا بالأشوريّين في القرن الثّامن ق م. ومشكلتهم مع اليهود مزدوجة: دم خليط غير نقيّ وديانة خليطة غير طاهرة. فلم يكونوا يعاملونهم بالحسنى منذ أيّام النّبيّ عزرا. لذا، من الصّعب أن يساعد سامريٌّ يهوديًّا في ورطته. لكنّ هذا السّامريّ كان مختلفًا إذ امتلك قلبًا عطوفًا. رأى إنسانًا واقعًا في مشكلة وأراد أن يساعده. “فتقدّم وضمّد جراحاته وصبّ عليها زيتًا وخمرًا وأركبه على دابّته وأتى به إلى فندق واعتنى به.” لقد قدّم كلّ ما يملكه بسرور ومن تلقاء ذاته: الخمر ليطهّر الجروح والزّيت ليطرّيها وثيابه ليضمّدها ويغطّيه ودابّته لينقله؛ ومشى هو على قدميه. وفعل أكثر من ذلك، إذ أخرج دينارين، وهي أجرة يومَي عمل، وأعطاهما لصاحب الفندق وقال له: “اعتَنِ به ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك”. نرى في ذلك أنّه قدّم مساعدة مستمرّة ومتكاملة لشخص غريب لا يعرفه وفي وسط مُعادٍ.
تطبيق التّعليم عن محبّة القريب
أنهى المعلِّم العظيم مثله فسأل النّاموسيّ: “أيّ هؤلاء الثّلاثة ترى صار قريبًا للّذي وقع بين اللّصوص؟” لم يكن صعبًا على النّاموسيّ المفكِّر أن يرى السّامريّ “قريبًا” لليهوديّ المحتاج، وذلك بالمعنى الأساسيّ للكلمة، لأنّه اهتمّ بالجريح كما يهتمّ الرّاعي بخرافه. فقال “الّذي صنع معه الرّحمة.” وقد أظهر الجواب منطقًا سليمًا، إلاّ أنّه غير كافٍ فالمهمّ هو تطبيق المبدأ في الحياة. لذا، تابع يسوع بالقول: “اذْهَب أنت أيضًا واصْنَع هكذا”. أي كنْ كالسّامريّ قريبًا ومُعينًا ومهتمًّا بإنسان محتاج بغضّ النّظر عن ظرفه ودينه وعرقه والعرف السّائد.
القريب هو أيّ إنسان محتاج إلى معونة ما. قد يكون المنعزل المتوحِّد المشتاق إلى الرّفقة، أو الشّابّ المحتاج إلى توجيه، أو المراهق المتورّط في المشاكل والمحتاج إلى الرّعاية، أو المدمن المحتاج إلى الدّعم للتغلّب على إدمانه. هناك طرق مختلفة بها يبرهن المسيحيّ بأنّه يحبّ قريبه كنفسه. من السّهل أن يعيش المسيحيّ متمتّعًا بالشّركة مع المؤمنين وبالبرامج الكنسيّة ويفشل في مدّ يد العون إلى مجتمعه. من السّهل أيضًا أن يناقش القضايا اللاّهوتيّة وتفسير المعضلات الكتابيّة، ولكنّ المطلوب هو أن يذهب إلى الآخر ويكون له سامريًّا صالحًا. لقد كان الشّخص الّذي أسعفني قرب المطار في تلك اللّيلة الممطرة غريبًا بالنّسبة إليّ، لكنّه في الواقع تصرّف كقريب لي، ومن وقتها وأنا أفتح عينيّ مليًّا من حولي لأرى مَن يُريدني الله أن أكون قريبًا له. إنّ اتّباع طريقة السّامريّ الصّالح في خدمة المتألّم والمتروك تُبدّد الحواجز بين النّاس، وتجعل منهم أقرباء طيّبين.