“فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكًا فِي الْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ الْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ” (تك 22: 13)
نحتاج في موضوع الإيمان إلى عيون ترى. يُقال أن الإيمان ليس بما يُرى بل بما لا يُرى. لكن كيف نؤمن بما لا نراه ولا نرجوه ولا نثق أنّه يكون؟ لماذا لا يكون هناك إيمان يرى؟ ابراهيم يرفع عينيه ويرى. هناك ضعف بصر لدى الكثيرين ممّن يدّعون الإيمان. إنهم بلا عيون، وإن وُجدت، فهم بلا بصر، وإن رأوا فلا يؤمنون. إبراهيم مثال المؤمنين وأبوهم يتميّز بأنه صاحب إيمان وكانت له عيون ترى فاستخدمها.
فرفع ابراهيم عينيه ونظر… لو لم يرفع عينيه لما نظر. ولو لم يستخدم إيمانه لما تجرّأ أن يرفع عينيه. عملية الإيمان تحتاج إلى الجرأة ليستخدم الإنسان نظره ويرى. المسيح شدّد على أن للبعض عيونًا لا ترى. ولغيرهم آذان لا تسمع. ادّعى شعب إسرائيل أيام المسيح أنهم اتباع ابراهيم. كثيرون اليوم يدّعون اتِّباع ابراهيم. لكن هل يستخدمون عيونهم ليروا ما أعدّه الله لهم؟ يصوّر الرّب يسوع حال هؤلاء على الشكل التالي: “لأن قلبَ هذا الشعب قد غلُظَ، وآذانَهُم قد ثقُلَ سماعُها. وغمّضوا عيونهم، لئلا يُبصروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم، ويرجِعوا فأشفيهم” (متى 13: 15).
من هو الكبش؟
لماذا يضرب العمى أبناء ابراهيم؟ لماذا يُبصر ابراهيم الكبش وهم لا يرون ما أبصره؟ لماذا يرى الفداء وهم ما زالوا بعيدين عنه ولا يستفيدون منه؟ هل إن بصرهم ضعيف أو ينقصهم الإيمان ويفتقرون إلى الرؤيا؟ ما الذي يعمي أذهان الناس لئلا يروا من قال عنه المعمدان أنه الكبش الحقيقي – حمل الله – المسيح؟ الفداء قد تمّ وهم يبحثون بين خرفان الأرض عن كبش يُقدّمونه دون أن يدروا أن حمل الله جاء وتمّم الفداء ورفع خطية العالم (يو 1: 29).
مع ابراهيم نرى أن الإيمان بالقيامة يدفعه إلى تقديم ابنه، الشاب في ربيع الحياة، ليستردّه سريعًا. لم يسبق لأحد أن قام قبل ذلك اليوم. فكيف عرف ابراهيم أن ابنه إن مات يقوم؟ (عب 11: 18-19). وكانت القيامة في صلب إيمان اسحق أيضًا. ابراهيم يتغلّب على كل ضعف أبوي عاطفي ليُقدّم ابنه بالكامل. واسحق الشاب لا مانع لديه أن يُقدَّم بالكامل للرب. قليلون هم الآباء الذين يضعون الله أولاً. نادرون هم الأبناء الذين يقبلون أن يُربطوا بالمذبح حتّى الموت. قليلون هم الآباء الذين يفهمون أسرار الحياة والقيامة والإيمان والطاعة والتكريس. يكاد لا يوجد أبناء يستسلمون لمن يُقيدّهم إلى قرون المذبح فيحرمهم الفلتان في الحياة!
الامتحان العنيف
اسحق ذهب مع والده مؤمنًا بأنهما يذهبان للصلاة ويعودان قريبًا إلى بيتهما. (تك 22: 5). لم يفقه اسحق عمق اختبار والده، وما يصير معه، لكنه تيقّن أن لوالده علاقة شخصيّة مع الله. الأبناء شديدو الحساسيّة في كشف جوهر والديهم ويحترمون أصالتهم فيُجارونهم في تكريسهم. من يرى في أبيه سطحية أو مراءاة أو شرًّا أو تفلّتًا لا يطاوعه في تكريس نفسه للرب. وفي الوقت الذي أخذ ابراهيم ينظر إلى الكبش، كان اسحق ينظر إلى ابراهيم. وفي الوقت الذي كان ابراهيم يفهم من الكبش، كان اسحق يطمئنّ لإبراهيم. وفي الوقت الذي كان ابراهيم يسمح للرب بأن يأخذ وقته ليكشف له أسرار ما يجري، كان اسحق يخضع لحكم تلك اللحظة ليتعلّم من الله.
أما الرب فأراد امتحان ايمان ابراهيم وتكرّسه الكامل. هنا أولوية الإيمان (تك 22: 1). لكنه بعدما نظر ورأى الكبش قام وفكّ قرنيه المعلّقين بالغابة. لم يكن للكبش مصيرٌ آخر. وُلِد ليُذبح. وُلِد مربوطًا ليُحرِّر آخرًا من قيده. وفكّ ابراهيم من ثمّ ربط ابنه، وقدّم الكبش عوضًا عنه. أمّا الكبش فلم يُقدّم ذبيحة وحسب؛ ولم يختبر حزّ السكين على رقبته فقط. بل أكلته أيضًا نيران المذبح فكان ذبيحة وكان محرقة. هذا ما كان سيحصل مع ابنه: أن يحترق أمامه.
كان الوثنيّون يُقدّمون أبكارهم لآلهة النحاس المحمّى، فيقرعون الطبول ويلعبون الموسيقى الصاخبة لئلا يسمعوا صراخًا وأنينًا يذبحهم دون رجاء بقيامة. انصبّ جلّ همّهم على استرضاء الآلهة لخصوبة في زواجهم أو لموسم قطاف ناجح أو لولادة بقرتهم بالسلامة أو لأمطار غزيرة. ابراهيم يعرف أن الله لا يُسرّ بالذبائح البشرية، لكنّه سمع ما سمِع وأطاع من دون أن يجادل. قد يكون جال في ذهنه سؤال: “هل أُعطي بكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي؟” أدرك ابراهيم بالطبع أن الله لا يُسرّ بقتل شاب بريء على مذبح الدين. لكن هذا ما طلبه الله، وهو صمّم على أن يُطيع، مؤمنًا بأن الله سيتدخّل في لحظة ما ليُنقذ ابنه أو يُقيمه في اللحظة التالية. فكيف لا يستجيب الله السميع؟ وكيف لا يرحم الرحوم؟
انتصار الإيمان
وهكذا تبرهن إيمان ابراهيم عمليًّا، فتبرّر بالعمل السليم الذي يتوافق مع الإيمان السليم، ولهذا يقول الوحي: “ألم يتبرّر إبراهيم أبونا بالأعمال، إذ قدّم ابنه على المذبح؟” (تك 15: 6؛ يع 2: 21). تُستخدم في هذه القصة المعبّرة مفردات قيّمة مترابطة متراصّة: تكريس، وخضوع للإمتحان، وعينين مرفوعتين، ونَظَر ورؤيا وكبش مربوط بقرنيه في الغابة. تخفانا هذه الكلمات بينما نقف مذهولين أمام ثلاثة: ابراهيم واسحق والكبش. لكننا عندما نرى هذه المفردات نعود ونقرأ من جديد فلا نعود نرى الكبش وحسب، بل نرى أيضًا ابراهيم يقف أمام الكبش وينظر إليه مدهوشًا. يقول الحمل: “التفتوا إليّ واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش 45: 22). هذا ما عمله ابراهيم: “فرفع ابراهيم عينيه ونظر وإذا كبشٌ وراءه مُمسكًا في الغابةِ بقرنيهِ”. آه لو لم يرَ الكبش! يا لمدى شدّة قساوة ما ستلي ذلك من لحظات! أمّا عن النظر إلى الكبش ومفاعيله المباركة، فقال يسوع: “أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية” (يو 6: 40). خضع كل من ابراهيم واسحق في تلك اللحظة الرهيبة لضغط نفسي كبير، والسكين مرفوعة فوق صدر الفتى. وكل واحد منهما يسأل: ماذا لو؟…
يرسم الفنانون الكبار ابراهيم رافعًا السكين، ولكنه ينظر إلى مكان آخر، ينتظر تدخّل الله. لا بدّ من أن يرى الكبش. لم يعرف ما العمل، لكنه يقول، كما قال يهوشافاط عندما أحاط به وبشعبه أعداؤهم وداهمهم الموت: “يا إلهنا أما تقضي عليهم، لأنه ليس فينا قوةٌ أمام هذا الجمهور الكثير الآتي علينا، ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيُننا” (2أخ 20: 12). لا بدّ من أن يرفع ابراهيم عينيه ليرى الكبش ويحيا الفتى.
كان إيمان ابراهيم سبب خلاص له. والكبش سبب فداء لابنه. يا لتلك اللحظات المجيدة والسعيدة عندما رفع عينيه ونظر الكبش الذي رتّبه الله له. سبق لإبراهيم أن صرّح: “الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني” الآن ابراهيم يرى الكبش بعينيه. وبهذا الكبش رأى حمل الله الذي يرفع خطايا العالم (يو 1: 29). في الكبش رأى كيف أن الله “لم يُشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو 8: 32). والأهم في الموضوع أن ابراهيم رأى في هذا الكبش ابنه حيًّا. رأى في الكبش المسيح الفادي، وفي المسيح رأى البشرية المفدية. هذا حق اليقين. صرخ ابراهيم في تلك اللحظة، كما فعل والد الابن الضال عند عودته: ابني حيّ. هذا ابني كان ميتًا فعاش.
تأثير رؤية الكبش على ابراهيم
هل نقدر أن نعرف مدى تأثير رؤية الكبش على ابراهيم؟ ماذا لو نضع أنفسنا مكانه في تلك اللحظة؟ لن يفهمه أحد تمامًا سوى الأعمى الذي شفاه المسيح فرآه (يو 9). أو لعازار القائم من الأموات والذي رأى وجه المسيح الذي أقامه عند نزع الأقمطة عن عينيه (يو 11). أو الصبية ابنة الإثنتي عشرة سنة التي أمسكها المسيح بيدها وأقامها من موتها فرأته فدُهشت وأدهشت الجميع بقيامتها (مر 5). هكذا رأى ابراهيم الكبش. ولم ينسه بعدها. هكذا فرح اسحق بالكبش. كلاهما عرفا الفادي. لو لم يُبصر الكبش لما بقيَ ابنه له. الكبش حفظ له ابنه. الكبش مات عوضًا عنه. هنا الموت البديلي الذي يُحيي المحكوم عليهم بالموت. هنا الخروف المذبوح الذي يُحيي الموتى. هنا التضحية بلا حدود. هنا الكفارة غير المحدودة التي رأفت بالبشرية. هنا الرحمة التي رفقت بشاب أمكن أن يحيا ويموت لامتحان إيمان آخر.ؤ
أما ذاك الكبش، فذهب إلى المذبح ليُتمّم فداء عظيمًا وخلاصًا أبديًّا. هذا ما عمله المسيح عنّا. “لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها. ونحن حسبناه مُصابًا ومضروبًا من الله ومذلولاً. وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا. تأديبُ سلامنا عليه، وبُحبره شُفينا. كلّنا كغنمٍ ضللنا. ملنا كلُّ واحد إلى طريقهِ، والرّب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلِم أمّا هو فتذلّلَ ولم يفتح فاهُ. كشاةٍ تُساقُ إلى الذبحِ، وكنعجةٍ أمام جازّيها فلم يفتح فاه، على أنّه لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمِه غشٌّ. أمّا الرّب فسُرّ بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثمٍ يرى نسلاً تطول أيّامُهُ، ومسرّةُ الرّب بيدهِ تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البارّ بمعرفتهِ يُبرّر كثيرين، وآثامهم هو يحملها” (إش 53: 3-11).
لك الحمد يا أيها الحمل الذي سيق إلى الذبح لخلاصنا ولتحريرنا من قيودنا. لك التسبيح يا من بذهابك إلى المذبح فككتنا من ربطنا. لك الإكرام يا من مُتّ عنا لأنك حرّرتنا بالتمام. لك الشكر ولك الحياة ولك دماءنا وعروقنا وكياننا يا حمل الله الذي “فيه لنا الفداء وبدمه غفران الخطايا” (كو 1: 14).