قاعة محكمة هي حياة المريض: أسئلة وأجوبة، ادّعاء ودفاع، أدلّة وبراهين، شهود وأمثلة. وفي النّهاية… يصدر الحكم.
“افتُتِحَت الجلسة،” يُعلِن القاضي. فتبدأ الأفكار تدور في رأس المريض: الماضي والحاضر والمستقبل تحت السّؤال والحُكم.
يَمْثُل “الماضي” بهجوم ملفت في المحاكمة، فيستحضر الخطايا والذنوب والمعاصي التي ارتكبها المريض، وينقر بكل ثقة على وتر وحيد: عِلَّة مرضك هي خطاياك! أخطأت في مكان ما ولذلك يقاصصك الله! راجع ماضيك، فمعاصيك هي السّبب!
وفجأة تتقدم “المشيئة”، حاضرة طويلة وشامخة فوق الجميع. وبصوت عميق حكيم تخاطب مفسّرة: نعم، صحيح أن الله يؤدب، وصحيح أن الله ينقّي ويزيل الشوائب في المرض، وصحيح أنه من المؤكّد أننا نحصد ما نزرع؛ ولكن، كلاّ، ليس صحيحًا أنّ كلّ مرض هو قصاص على خطيئة! فانتبه إلى قول ربنا يسوع عن المولود أعمى: “لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه” (يو9: 3).
وما هو إذاً سبب مرضي؟ يهدف مرضي إلى إظهار عمل الله فيّ بحسب مشيئته الصّالحة المرضيّة والكاملة!
ثم، وبلحظة، يقف “الحاضر” في المحاكمة، وتبدأ الأسئلة الواقعيّة! لو لم تكن مريضًا لَكُنت أكثر انتاجاً! لو لم تكن متألمـًا لَخدمت الرّبّ بطريقة أفضل! أين هو الله في وسط آلامك هذه؟ لقد توقّفت حياتك! لا تقدر ولن تقدر على العيش!
ويُسمع صوت يدوّي وكأنّ زلزلة قد حدثت! “تستطيع كلّ شيء في المسيح الذي يقوّيك”. وهنا تتقدم “القوّة” باندفاع كبير نحو الأمام محاولة إزالة كلّ شكّ وضعف وانهزام سبّبه الحاضر بأفكاره. وتقول: “تكفيك نعمة الله، فقوّته في الضعف تظهر”! أُدخل إلى عرش النّعمة فتجد العون من العليّ في حينه!
وهنا أقول لنفسي: نعم، أَحتمل، أصبر، أتقوى في الرّبّ وفي شدّة قوّته، هو عوني الشّديد في الضّيقات، أثق في الفخّاريّ الحكيم الذي يشكّل حياتي بيده الحنونة المثقوبة، وأُبقي عيني على الصّائغ المبدع الذي يجلس ممحّصًا ومنقّيًا الفضّة، حتى تنعكس صورته هو في إنائي المتواضع!
بغتةً، يتقدّم “المستقبل” ماردًا متجهّمًا ويقف في وسط قاعة المحكمة! لديه صور سوداء قاتمة يعرضها. هكذا ستكون حياتك! لا مستقبل لديك! أنت عالة على من حولك! ستبقى هكذا طوال حياتك! هذا إذا كنت تظن أن واقعك هو حياة! لن تقدر أن تتعايش معه! وضعك ميؤوس منه!
فجأة، يدوّي صوت صارخ: أبدًا! يعترض “الرجاء” شاقًّا طريقه بصعوبة إلى الأمام، محاولاً أن يحاصر قتام المارد بنوره الساطع: اطمئن، يوجد رجاء لكلّ الأحياء. ما زال الله موجودًا. إيمانك ورجاؤك هما في الله، إله الرّجاء! هو السّائر معك في غربتك. سحابة مجده تقود خطوتك في برّيّتك. وأفكاره من نحوك هي أفكار خير ورجاء لمستقبلك. قد يَبعد فكره عن فكرك وتعلو مقاصده عن نظرك، ولكن ثق، احتمل، ارجُ الهك، تمسّك بثقة الرّجاء ثابتة إلى النهاية، لأن الذي وعد هو أمين، ولا تنسى قوله لك: “أنا هو لا تخف”.
أجل. صدر الحكم عندي.
إله الماضي والحاضر والمستقبل، أبي السّماويّ،
هو معي، في داخلي،
مشيئته صالحة، قوته شديدة، رجاؤه منير
فأهلاً بالحياة في رضاه!
إنتهت المحاكمة.