أذكر أنّه في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، صوّر بعضهم المسيح على أنّه مُتشرّد من جماعة الهيبيّين العاطلين عن العمل الّذين يعيشون في التجوال والتمتّع بما يُقدّمه الآخر لهم من دون أن يتحمّلوا مسؤوليّة عمل ما. ولربما يسأل الإنسان نفسه: ماذا كان يعمل المسيح؟ كيف كان يكسب عيشه؟ هل كان كسولاً متّكلاً على دعم أحبّائه المادّي؟ أو هل تقاضى أجرًا لقاء خدمته التعليميّة بين النّاس؟ وإذ يعترف المرء بحقّ السائل في طرح هذه الأسئلة، تُظهِر الأناجيل الكثير عن “المسيح العامِل” أو “الشغّيل” الّذي كان مثالاً حقيقيًّا للنّاس في جميع نواحي حياتهم. فالمسيح لم يكن إطلاقًا اتكاليًّا لا يأتي بعمل، بل عاملاً نشيطًا، مقدّمًا لنا مثالاً من المفيد الاقتداء به.
المسيح الابن يقتدي بالآب السّماوي
لم يكن المسيح، الإله المتجسّد، كسولاً. بل هو، كالآب، في نشاط مستمرّ ومشترَك مع الآب، مُظهرًا مساواته به. قال يسوع: “أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَل.” (يوحنّا 5: 17). وما عمل يسوع سوى بالقدوة والرغبة الداخليّة الموجودة في داخله. وفي الأصل، نرى أن الله، الخالق، قد خلق الإنسان الأوّل كائنًا عاملاً وأناطه عملاً يقوم به في الأرض. وبهذا أيضًا يكون الإنسان على صورة الله ومثاله، أي عاملاً كإلهه (تكوين 1: 27).
والمسيح، كان يُقدّس العمل ولا يحتمل أن يرى نفسه من دونه. “طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ.” (يوحنّا 4: 32-34). وبالتالي، لا يقدر المسيحيّ على تبرير كسله وتهرّبه من تحمّل مسؤوليّاته على الأرض. وهكذا، لم يقبل الرّسول بولس وجود كسولين في الكنيسة، وأوصى بتأديبهم ليعملوا بنشاط ويأكلوا من تعب جبينهم، وهو أيضًا قدّم نفسه قدوة في هذا الأمر: “إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ، وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزًا مَجَّانًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَارًا، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ.” (2تسالونيكي 3: 6-12).
المسيح العامل يتّكل على الله في عمله
إذًا، كان المسيح في الجسد يعمل متّكلاً على الله. قال: “أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا… لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.” (يوحنّا 5: 30). نرى في هذا التصريح أنّ يسوع الناصريّ كان يعمل بحسب مشيئة الله وبمعونته. ومنه أخذ يعقوب، مبدأ الاتكال على الرّب وعلّمه للمؤمنين: “هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَح. أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ. عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ الرّب وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاك.” (يعقوب 4: 13-15). يحتاج النّاس، في مجتمعنا المادّي، إلى التذكرّ دومًا أنّهم من دون معونة الله لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا. فالإنسان، بعد انخراطه في العمل وتقدّمه في الخبرة وتحقيقه النجاحات، يتكلّم على عمله وكأنّه هو من يفتعل الفرص والثروة والنجاح، وينسى أنّ البركات تأتي من الله وليس من قوّته الشخصيّة أو أرصدته المكنوزة. وأعمق درس لنا هو في قصّة جهاد التلاميذ، الّليل كلّه، من دون أن يصطادوا سمكة واحدة، حتّى رموا الشباك متّكلين على نعمة الله وكلمة المسيح، فكادت شباكهم تتمزّق من وفرة الصيد (يوحنّا 21: 6).
يحتاج الإنسان العامل إلى أن يتعلّم أيضًا أنّ حياته ليست من ماله، وبالتالي ليست من عمله. فهناك أشخاص يبتلعهم الخوف من الغد، فيعملون بلا هوادة، وهاجس العوز يُقلقهم، فيهملون حياتهم الرّوحيّة ولا يتّكلون على الرّب فيفسد بالتّالي ترتيب الأولويّات في حياتهم. لقد خاض يسوع ميدان العمل ورأى عمّالاً يعملون والخوف يأسر قلوبهم ويقتل فيهم الإيمان، فشجّعهم في الموعظة على الجبل أن لا يهتمّوا فيما للغد إذ الرّب يعتني بهم. فهم أفضل من زنابق الحقل وطيور السماء التي لا يتركها الله بل يرعاها بنعمته المتفاضلة (متى 6: 25-34). فمن الحكمة أن يتعلّم الإنسان أن يذكُرَ خالقه الّذي يفيض عليه ببركات الصحّة والعافية والنشاط والعمل: “بَلِ اذْكُرِ الرّب إِلهَكَ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُعْطِيكَ قُوَّةً لاصْطِنَاعِ الثَّرْوَةِ.” (تثنية 8: 18).
المسيح الشّاب يتعلّم حرفة النجارة
لقد تعلّم المسيح حرفة النّجارة من نعومة أظافره (متى 13: 55؛ مرقس 6: 3). ويستنتج بعضهم أنّه، بالإضافة إلى أصناف المصنوعات الخشبيّة التي كان المسيح يشتغلها، اشتهر في صناعة النِير والمحراث بشكل خاصّ. وهو من قال: “اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي” (متى 11: 29). وهو اهتمّ بالزراعة أيضًا. وقال أيضًا: “لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ الله.” (لوقا 9: 62).
لقد كانت العائلات اليهوديّة، في أيّام المسيح، تُعلّم أبناءها الحِرَف اليدويّة فتُبعدهُم عن البطالة والفساد وتبني فيهم تحمّل المسؤوليّة، وتضمن صيرورتهم منتجين وقادرين على إعالة أنفسهم وعائلاتهم. لقد آمنوا أنّه إن كان الإنسان منتجًا ومُعيلاً لنفسه فذاك أفضل جدًّا من أن يكون فيلسوفًا ومحتاجًا ومتوكّلاً على غيره لمعيشته! يقول إرميا النبيّ: “جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ.” (مراثي 3: 27).
أمّا بعض اليهود الّذين تأثّروا بالحضارة الإغريقيّة واحتقروا قدرات المهنيّين، ونظروا إلى مهنة التعليم كمهنة خاصّة بالّذين اعتمدوا حقل الدّراسة النظريّة دون سواها، فقد تعجّبوا لكون يسوع النجّار قد برع في التعليم والخطابة وهو مُجرّد مهنيّ اشتهر بحرفته. “وَقَالُوا: “مِنْ أَيْنَ لِهَذَا هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ أَلَيْسَ هَذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟” (متى 13: 54- 55). وما لم يعرفه هؤلاء النّاس يومها هو أن مهنة النجارة، كما أيّ مهنة، قادرة على تعليم من يحترفها الصبر والدقّة والتفنّن في اختراع الحلول بطرق بسيطة وعمليّة في آن. وتُعلِّم مهنة النّجارة التصّميم والرسم ووضع النماذج واستخدام البيكار والقياس والنشر والّلصق والقطع ودقّ المسامير وجمع الأجزاء وتدوير الزوايا وتنعيم المساحات الخشنة، هذا بالإضافة إلى التعامل مع أنواع الخشب والحديد والحجارة المختلفة.
وهذا ما وصل إليه العالم الحديث عندما أعاد اكتشاف أهميّة التعليم والتدريب المهنيّ في كافّة مستوياته الابتدائيّة والعالية. أمّا الشعوب التي تكتشف أهميّة تدريب المراهقين والشباب على مهنٍ وحرفٍ، فتُعطيهم فرصة نموّ شخصيّاتهم الاجتماعيّة وتبلورها، وتجعل منهم أشخاصًا نافعين ومميّزين.
المسيح المُنتِج يحترم أوقات الرّاحة أيضًا
لم يعمل المسيح بلا انقطاع، بل كان يرتاح، وقد أراد أن يتعلّم تلاميذه أهميّة الراحة. “وَاجْتَمَعَ الرُّسُلُ إِلَى يَسُوعَ وَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كُلِّ مَا فَعَلُوا وَكُلِّ مَا عَلَّمُوا. فَقَالَ لَهُمْ: تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلا.” (مرقس 6: 30- 31). لقد آمن يسوع بأنّ للعمل وقتًا وللراحة وقتًا. وبالتالي، لا يجوز أن يستمر الإنسان في العمل بلا توقّف. قال يسوع: “يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ.” (يوحنّا 9: 4). فهناك وقت للراحة الجسديّة وللتأمّل، فيه يُجدّد الإنسان نشاطه ليصبح قادرًا على الاستمرار في عمله من دون إرهاق. أمّا الانسان فمن الممكن أن يغرق في العمل ويُدمن عليه، وينسى حاجته إلى الرّاحة الجسديّة. نرى، في قصّة مرثا ومريم، موقف يسوع المعبّر عن هذا الأمر. فهو وبّخ مرثا، “الّتي كَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ”، ولم تقبل أن ترتاح أختها مريم قليلاً. فقال لها يسوع: “مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا.” (لوقا 10: 40-42). وفي كلامه هذا، امتدح يسوع مريم التي عرفت أنّ لكلّ شيء وقتًا تحت الشمس، وأنّه لا يجوز للإنسان أن يظلم جسده وأعصابه أو أن يُهمِل حياته الرّوحيّة. فإن كان المرء يُريح حماره، أفلا يُريح جسده، “فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ.” (أفسس 5: 29). ففي موقفه هذا، الذي يُقدّر فيه يسوع ضرورة الراحة الجسديّة، يُظهر احترامه لجوهر الوصيّة الرابعة التي تأمر بحفظ يوم الرّب (خروج 20: 8-11).
المسيح النجّار وفلسفة العمل
لقد اختبر يسوع العمل جيّدًا وطويلاً حتّى كان له أكثر من عظة حول العمل والإنتاج والمال والرّبى والتوظيف والعلاقة التي تربط أرباب العمل بالعمّال أو العمّال بأرباب العمل. وكان ليسوع أيضًا تعليمٌ حول استخدام الوقت والمساءلة والمحاسبة وأصول الوكالة المهنيّة. ويحتاج المؤمنون إلى أن يتعلّموا من يسوع هذه القواعد، فبعض المهنييّن المسيحيّين يستهينون بالأخلاق المهنيّة المطلوبة منهم ويستبيحون الوكالة المعطاة لهم.
علّم يسوع في مثل “وكيل الظلم” (لوقا 16) أنّ على كلّ عامل أن يتوقّع من معلّمه المساءلة في أيّ وقت: “أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ” (2)، ومن لا يكون أمينًا فعليه أن يتوقّع العقاب اللازّم من مواجهة وتوبيخ، وعزل من الوظيفة، وبالتالي رفض المجتمع له، وفقدانه ثقة النّاس به، وفرصة العمل فيما بعد، وبالتالي يصير من الصعب عليه إيجاد عمل مناسب له. لقد آمن المسيح بأن “اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ” (10)، فمن ليس أمينًا على القليل المودع بين يديه، كيف يُقام على الأكثر منه؟ أمّا العامل الأمين الذي يعمل بمعرفة ونشاط، فيُكافئه ربّ عمله ويمدحه إذ “بِحِكْمَةٍ فَعَلَ” (8).
يوضح يسوع أنّ، من أسباب استهانة العمّال والموظفين بأعمالهم، الكسل وعدم الأمانة في الوظيفة وعدم استثمار المال والوقت والمهارات بشكل ذكيّ يؤول إلى زيادة رأس المال، وكلّ ذلك بسبب احتقار العامل لربّ العمل أو استرباحه. ويحذّر يسوع، في مثل الوزنات في إنجيل متى (ص 25: 14-30)، من أنّ هذه الأمور لا يمكن أن تمرّ من دون مجازاة واجبة. فالعامل الأمين كافأه صاحب العمل: “نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ.” أمّا العامل غير الأمين فاستحقّ التأنيب والفصل. لقد آمن يسوع بأنّ النشاط والأمانة في العمل يُباركهما الرّب، أمّا قلّة الأمانة وسوء العمل فلهما مجازاتهما العادلة!