كم يصعب عليّ أن اتصوّر عالمنا من دون صداقات وعلاقات متينة وثقة متبادلة بين الناس على أسس الاحترام والمحبّة والأخوة الإنسانية الصافية والصداقة الحقيقية، على مختلف المستويات والصعد وفي كل آن.
لا يعيش الإنسان وحيدًا مهما كان مستواه الاجتماعي والثقافي والديني؛ بل يحتاج إلى الآخر، يفتح له مكنونات قلبه ويعينه في العثرات والمطبّات والمشاكل!
الوحدة تحوّل الحياة إلى جحيم والإنسان إلى كائن ذليل يعيش مثل الطريدة!
الفرد الذي يقع ضحيّة خيانة يظلّ مقهورا مطاردا لا يجد مكانًا يضع رأسه فيه كما يقول السيّد المسيح في الإنجيل المقدّس… يتألّم وتطفر الدموع من عينيه، ويغصّ بلقمته وتخنقه شربة الماء، فلا أسوأ من الغدر وانعدام الصداقة وانحباس نعمة الوفاء كما انحباس نعمة المطر عن الأرض العطشى!
إن مسألة الوفاء والغدر والخوف من الآخر موجودة في سلوك الإنسان منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض، وهاكم تلك المقولة على لسان القدماء: “سمع الأصمعي أعرابيًّا يعظ رجلًا بقوله: ويحك ان فلانًا وإن ضحك فإنه يضحك منك. فإن لم تتّخذه عدوًّا في علانيتك فلا تجعله صديقّا في سريرتك”.
يدلّ هذا الكلام على مدى التجارب المريرة التي تمرّ على الإنسان وظلم ذوي القربى عليه – الأشد مضاضة من وقع الحسام المهندّ – لدرجة يصعب معها أن نعطي أسرارنا لكائن أو نصادق أحدًا، خفية وجهارًا.
تألّم كثر جرّاء انعدام الثقة لدرجة أنّهم وجدوها أبشع وافظع من الموت. يقول يوهان دنيه : “أن تخسر شخصًا بسبب الموت أقلّ إيلاما من خسارته لانعدام الثقة، الموت يقضي على المستقبل فقط، لكن الخيانة تقتل الماضي أيضا”.
من تعرّض لخيانة حبيب يشعر بألم لا يوصف، أو من تعرض لاستغلال عاطفيّ، ماديّ، اجتماعيّ، ومن ثم أدرك فداحة خسارته، يغرق في لجّة من الكآبة والقهر وجلد الذات، والانهيار النفسيّ العميق من النوع المؤلم الذي يترك آثارّا عميقة واضطرابات عنيفة مزلزلة، فاضحة وظاهرة بوقاحة؛ في الروح والشخصيّة!
في القرن الماضي، غالبًا ما كنت أستمع الى أغاني المطربة الرائعة سميرة توفيق، ومن أغانيها الرائجة آنذاك واحدة تقول فيها: “دوّرولي عن حبيب، يابا دوّرولي عن حبيب”. وكان الفتى الصغير يسأل جاره الشّاب عمّن يكون حبيب هذا الذي تبحث عنه سميرة توفيق، وهو على براءته غير مدرك أن جاره فقد حبيبته التي تخلّت عنه لتتزوّج رجلًا آخر يكبره بعقدين، وكان الشاب، الشاعر والحسّاس، قلبه ينزف ألمًا ودمًا وقهرًا، وكلّما سمع الأغنية على الراديو، يغمى عليه لفرط تأثره وقهره ووجعه!
نفقد حبيبًا وصديقًا ووليفًا كما نفقد على حدّ سواء أوطانا وأرواحا وكرامات وعزّة وافتخار، كما نفقد ذممًا ومصداقيّة ومحبّة وإخلاصًا ووفاء!
يقول صفي الدين الحلي:
لمّا رأيت بني الزمان وما بهم
خلّ وفيّ للشدائد اصطفي
أيقنت ان المستحيل ثلاثة
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
أمّا بحسب ما نراه اليوم فقد وصلنا إلى زمن لم يعد من مستحيلات البتّة؛ فالغول قد تجسّد في عدّة شخصيّات وعدّة أجندات، وعشرات المخططات والاستراتيجيات والحسابات، هو غول الحضارة الذي يلتهم كلّ شئ، كلّ القيم، كلّ ما يبدعه الإنسان من حق وخير وجمال، كلّ ما نتعب من أجله ونتعذب وكلّ جنى العمر وتعب السنين، وأخيرًا يأتي الغول ويلتهم الإنسان. وتبقى من بعده الأرض اليباب تركض في أرجائها الذئاب، وفوق الجثث طنين الذباب، في تسبيح شبحيّ وشيطانيّ لسيّدها بعلزبول، المهيمن على شريعة الشقاق بين البشر!