الموسيقى لغةٌ تُحاكي النّفسَ والمشاعرَ. هي تسود عالم التّنوّع اللُّغَوي وتتفوَّق في مَدِّ جسور التّواصل بين مختلَف أجناس البشر.
حتّى أنّ الطّيور تتفاعَل عند سماعها نغماتِ آلةٍ موسيقيّة. فلا يمكنني أن أنسى أوقات التّمارين الّتي كنت أقضيها في غرفة الموسيقى الخاصّة بـمدرستي، وكيف كانت زقزقة العصافير تتناغَم مع المقطوعة الموسيقيّة الّتي كُنتُ أعزفها. وما زاد عجبي، كيف كانت ترافقني ضمن إيقاعٍ منتظم.
فالموسيقى تخلق متعةً للعازِف والـمُستَمِع. كما كتب أحد الحكماء “دائماً أصابع البيانو واحدة كما هي لا تتغير، ولكن ما يتغير هي أحاسيسك أنت فقط، ومشاعرك التي تصطحب وتنضج يوماً بعد يوم لتختلف الألحان بإختلاف الأزمنة “.
ولكن، متى فقد العازف هذا الشّغف بقضاء الوقت في تـمرين أنامله لكي تُحسِن التَّعبير، لحنًا وقوَّةً في تمييز الأصوات، لا بُدَّ من سؤال: هل هو يتعرَّض لضغطٍ نفسي من مصدرٍ ما؟ أو هل فَقَدَ حِسَّ الجمال الفنّيّ؟
في معظم الأحيان، نشهد طلّابًا، في المعاهد الموسيقيّة، يعيشون حالة الرّعب بَدَل المتعة خلال العزف. وهذا يعود بالطّبع لطريقة التّعامل معهم. زد على ذلك، فقد يتطوّر الخوف إلى حالةٍ مرضيّةٍ جسديّة، كالغثيان. وهذا ما حدث بالفعل مع ناريمان، تلك العازِفَة اليانعة، حين تعرّضَت لنقدٍ لاذعٍ من أستاذها. فبدل أن يساعدها لتحسين آدائها، صرعها بألفاظه الّتي لا تـمُتُّ للطّرق التّعليميّة بصلة. فعادت إلى منزلـها شخصيّة مهزومة فاقدة الثّقة بنفسها، وما تَـوَّجَ توتّرها كلام والدتـها الّتي أصرَّت عليها بوجوب زيادة وقت التّمارين المعتادة. بيد أنّه كان يجدر بالأمّ معرفة حالة ابنتها والوقوف إلى جانبها بدل إكراهـها بإجهاد نفسها في التّدريب. وهكذا أصبح التّمرين يزيد ناريمان ألـمـًا في معدتـها، إلى أن تطوّرت حالتها إلى تشنّجٍ في عضلات جسمها النّحيل.
فيا حبَّذا لو طلبت منها أخذ هدنةٍ لراحتها النّفسيّة! علَّها كانت استطاعت أن تكتشف في تلك الفترة مكامن خوفها. ففي المفهوم السّطحي، يلجأ المرء لـمزاولة القساوة وبذل مجهود أوفر للوصول إلى الكمال في العمل. بينما ومن المنظور الأوسع، فإنّ ممارسة الضّغط في الأعمال الموسيقيّة لا يحصد سوى الفشل والإنقطاع عن العزف.
فهل يا تُرى ما زالت ألحان الموسيقى جذّابة تحت وطأة الشّعور بالمرض؟
أين اختفت ملامح الفرح والبهجة المرافقة للنّغمات والألحان؟
بالمقابل، فإنّ إتقان العزف لـهُوَ ملاذٌ للتّسلية والبهجة. كما قال أحدهم “إنّ الموسيقى تعبّر عن جمال الإنسانيّة وتربطنا جميعًا بلغةٍ لا تحتاج إلى ترجمة لتبقى مصدر إلـهام وسرور في كلّ لحظة من حياتنا.”
لذلك حينما تصبح الموسيقى مصدر إزعاج للعازف، لا بُدَّ وأن تفقد صوتـها ويسود ضجيج الألـم مكانـها. وما يوضّح ذلك، ما جاء في رسالة يعقوب “أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ.” نخلص إلى أنَّ هناك فرق شاسع ما بين الحالتين، فبعبارةٍ أخرى، نستنتج أنّ الألم ارتبط بالصّلاة والسّرور لزِمَ نغمات الموسيقى.