
نحن نعيش في زمن يصحّ جدًّا أن يُقال فيه أنّه يشبه زمن نوح، حين “رأى الرّبّ أن شرّ الإنسان قد كَثُرَ في الأرض، وأنَّ كلَّ تصوّر افكار قلبه إنَّما هو شرّيرٌ كلّ يوم”. (تك 6: 5) وزمن القضاة حيث “كان كلّ واحد يعمل ما يحسن في عينيه” (قض 17: 6). هذا الانحراف في قلب الإنسان وسلوكه، يجعله رافضًا لمبدأ السلطة والخضوع لها، وحين يجد نفسه عاجزًا عن رفض السلطة، تراه يخضع لها في الظاهر، ولكنّه في داخله يبقى مصرًّا على ابتكار أساليب تتيحُ له التفلّت منها.
هذا الواقع نراه ظاهرًا بوضوح في علاقة الإنسان بالله، فترى أغلب الناس يعيشون وكأن الله غير موجودٍ في حساباتهم، حتّى وإن كانوا في الظاهر يعترفون بوجوده، لكنهم في الواقع إمّا أنهم لا يعترفون بسلطته أو أنّهم يتجاهلونها، والسبب في ذلك يعود إلى عدم احترام الإنسان لسلطة الكتاب المقدس الذي هو المصدر الوحيد الصالح لمعرفة فكر الله ومشيئته.
كتاب المسيح أو كتاب الناس؟
أن يكون هذا هو الحال السائد في العالم فهذا أمر غير مستغرب، لأن رئيس هذا العالم والمتسلّط عليه هو الشيطان، وهو من البداية يعمل على زعزعة إيمان الإنسان بصدقيّة كلام الله، بسؤاله المُشكّك: “أحقًّا قال الله؟” (تك 3: 1). أمّا أن يسود هذا الفكر التشكيكيّ في الكنيسة فهذا أمر محزنٌ جدًّا. فالكنيسة منذ القرن التاسع عشر تحتضن وللأسف، أفكارًا ملوّثة أدخلها إليها أصحاب الفكر الليبرالي، المتأثّر بالداروينيّة المُشكّكة بوجود إله خالق فائق للطبيعة، وبالتالي هو لا يتدخّل بعالم الناس ولا يُعلن ذاته لهم.
إنّ المحاولات المتكررة لقادة ليبراليّين لجعل تعليم “الكنيسة” متوافقًا مع فلسفات دنيويّة، كانت دائمًا على حساب تقديم تنازلات في كلمة الله، أكان ذلك بإغفال النظر عن المكتوب، أو بالإضافة إليه، أو بمحاولتهم “تحديث الإنجيل” ليتماشى مع الآراء المعاصرة. وهذا نابعٌ من اعتقادهم أنّ “الكنيسة” هي التي كتبت الإنجيل عند انطلاقتها، وأنّها ما زالت حتى اليوم تملك السلطان لتوكل مهمّة “تحديثه” إلى الأشخاص الذين تراهم نافعين لذلك، وهذا اعتقادٌ خاطئٌ بالتأكيد.
كلا، ليست الكنيسة هي التي كتبت الإنجيل، بل الرسل المعيّنين من المسيح والمختارين منه، وهم فعلوا ذلك بقيادة مباشرة من روح الله. وقدّ أكّد الرسول بولس هذا الكلام في مطلع رسالته إلى أهل غلاطية بقوله: “بولس، رسولاً لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من الأموات”. ولقد أدرك قادة الكنيسة عبر العصور أنه لا يمكنهم الإضافة إلى الإنجيل، إلاّ أن بعضهم سمح للإضافات أن تدخل إلى التقليد الكنسيّ ممّا سبّب التباينات مع نص الإنجيل. وهكذا لم تعد الكنيسة خاضعةً للكتاب المقدّس وحده، بكونه السلطة المطلقة، بل صار التقليد مرجعًا آخر مساويًا للإنجيل في نظرها، لا بل يتقدّم عليه حين يتعارض الإثنين. وبالجهة المقابلة قام غيرهم برفض ما جاء في الكتاب المقدّس تحت حجّة تنقيته من الخرافات والأساطير فضربوا هيبته وسلطته وتعليمه فلم يعد له أيّ موقع أو قوّة روحيّة في كنيسة المسيح.
أسئلة لا بدّ من التوقّف عندها؟
ومن هنا نسأل بعض الأسئلة التي من شأنها أن تساعدنا أن نبقى أمناء للإنجيل – دون زيادة ولا نقصان – الّذي ائتمننا الله عليه إذ أقامنا لنكون “سفراء عن المسيح” (2كور 5: 20).
- كيف يمكن لأحدٍ الزعم بأنه تلميذٌ للمسيح وهو لا يحفظ كلامه؟ والمسيح نفسه قال: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي” (يو 14: 23).
- كيف يمكن لمسيحي اعتبار حقيقة الخلق التي يحكيها الكتاب المقدّس خرافة، والمسيح نفسه استشهد بها عندما تحدّث عن الزواج والطلاق (مت 19: 4-5) مقتبسًا من سفر التكوين (تك 1 و 2)
- كيف يكون المسيحي مسيحيًّا وهو يعتبر طوفان نوح قصّة أسطوريّة، والمسيح نفسه تحدّث عن الطوفان بكونه حقيقة؟ (مت 24؛ لو 17).
- كيف يبقى المسيحي مسيحيًا وهو لا يصدق واقعة خراب سدوم وعمورة، والمسيح نفسه استشهد بالواقعة أيضًا في معرض حديثه عن مجيئه الثاني، مذكّرًا تلاميذه بامرأة لوط؟ (لو 17).
- هل يُعقَلُ أن يتبجّح بعض القادة المسيحيّين أن ليس كل المكتوب موحىً به من الله، والمسيح نفسه قال: “إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرفٌ واحدٌ او نقطةٌ واحدةٌ من الناموس حتى يكون الكل” (مت 5: 18).
- كيف يكون المسيحي مسيحيًا وهو لا يعترف بوجود الجحيم، أو يعتبره مجرّد حالة، في حين أن أكثر من ثلاثين في المئة من كلام المسيح كان عن حقيقة الجحيم والتحذير من الذهاب إليه؟
في الختام أقول: أن يكون الإنسان مسيحيًّا هذ يعني أنه مؤمن بالمسيح، وشاهد له، وموافق على كل ما قاله. فإذا كان المسيح قد شهد عن وحي المكتوب وسلطانه، لا يكون المسيحيُّ بعد مسيحيًّا إذا أنكر عصمة المكتوب.