واحدةٌ من آثار كورونا الأكثر إيلامًا، هي الوحدة المفروضة على المريض، وقد صارت مفروضةً على جميع الناس للحدّ من انتشار الوباء. ويزداد الألم عند ذاك، الّذي اعتاد طوال عمره، أن يكون بين النّاس ومُحاطًا بهم. يملأون حياته ويملأ حياتهم. ليس أصعب من العزلة للكائن الاجتماعيّ. ومن اختباري الشخصيّ، عندما أُصبت في الكورونا، وجدت أنّي، وإن كنت أتمتّع بالعزلة من وقت لآخر، لأنصرف للعمل وللدّرس، إلّا أنّ الغياب القسريّ الطّويل الّذي يفرضه المرض صعب تقبّله واحتماله. فيكون التّواصل الاجتماعيّ والهاتفيّ تعويضًا نفسيًّا عن التواصل الحضوريّ مع الأحبّاء والمعارف.
اختبر داود النبيّ عزلةً، لا بل حالةً من الأسر لا نعرف كلّ تفاصيلها دفعته ليصرخ إلى الله وينتظر رحمته. يقول في مزموره الشهير: “انتظارًا انتظرتُ الرّبَّ، فمالَ إليَّ وسمع صراخي.” (مز 40: 1). ويؤكّد أنّ الله سمعه ومال إليه، وأصعده “من جُبِّ الهلاك، من طين الحمأة”. أمّا الّذي دفعه ليتوجّه إلى الرّبّ فهو واحد من أمرين أو الأثنين معًا: إيمانه بشخص الرّبّ، وحضور الرّبّ في حياته. وقد يكون إيمانه بالرّبّ من المُسلّمات الّتي لم يعرف قيمتها ولم يستخدمها دائمًا. وهذا مُحتمل في حياة الكثيرين حتّى تصيبهم مصيبة، فيلجأون لإيمانهم. أنا آسف أن أحكي هكذا، لكن معظمنا يترك الإيمان كرصيد مصرفيّ نتّكل عليه يوم الضّيق. ويأتي ذاك اليوم، ويُضطَّر الإنسان إلى الإيمان فيبحث عنه ليطلب الله. هكذا نقدر أن نقول أنّ الضّيق يفيدنا في استنهاض إيماننا بالرّبّ واستخدامه والإتكال عليه. وهذا ما اعترف به المُرنّم إذ قال: “لولا أنّني آمنتُ بأن أرى جود الرّبّ في أرضِ الأحياء. انتظر الرّبّ. ليتشدّد وليتشجّع قلبُك وانتظر الرّبّ.”
أمّا الاحتمال الثاني الذي جعل داود يصرخ إلى الله وينتظر رحمته، فهو أنّ الرّبّ كان حاضرًا في حياته، وهو اعتاد أن ينظر إليه ويطلب منه أن يُعينه وينتظر رحمته. وهل يشعر كلّ إنسان بالحضور الإلهيّ الدائم في حياته؟ لا أظنّ. وقد يكون أنّ الله استخدم الضيق ليجعل داود يشعر بهذا الحضور بشكل مميّز ودافئ وقويّ. أتخايله عندما قال: “انتظارًا انتظرتُ الرّبّ، فمال إليَّ وسمِعَ صُراخي”. وأخاله وكأنّه يرى الله قريبًا منه، لكنّ صراخه أثار انتباهه فالتفت إليه. إنّ كلمات داود غنيّة للغاية وتُظهِر “سبب ونتيجة” لعلاقة شخصيّة مميّزة مع الله نشأت وقت الألم والوحدة. إنّه يربط بين صراخه إلى الرّبّ والتفاتة الرّبّ إليه. وهذا ما جعله يتشجّع أن يطلب الرّبّ دائمًا. “لأنّه أمال أُذنه إليَّ فأدعوه مُدّة حياتي.”
طبعًا ما شجّع داود لم يكن فقط أن الرّبّ كان قربه، ومن ثم مال نحوه إذ سمِع صراخه، بل كون الرّبّ مدّ يمينه وانتشله من ورطته وأسره: “وأصعدني من جُبِّ الهلاك، من طينِ الحمأة، وأقام على صخرة رجليَّ. ثبّتَ خطواتي، وجعل في فمي ترنيمة جديدة، تسبيحة لإلهنا.” ويحضرني بطرس عندما رأى المسيح ماشيًا على البحر وشكّ وابتدأ يغرق، فصرخ إلى الرّبّ الّذي انتشله.
نتشجّع إذ نرى الرّبّ الطيّب يلتفت نحونا عندما نصرخ إليه ويُخلّصنا ويجعل في أفواهنا ترنيمةً جديدة، ليس لأنّنا طيّبين ونستحق خلاصه، كما نُعزّي نفوسنا، بل لأجل رحمته الكثيرة. يقول دانيال النبيّ في اختبار مشابه صرخ به إلى الرّبّ فاستجابه: “أمِل أذنك يا إلهي واسمع… لأنّه لا لأجل بِرِّنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك، بل لأجل مراحمك العظيمة.”