في ليلة قاسية من ليالي الحرب في أواسط الثّمانينات، وُجدِتُ في ملجأ مع عدد من المُقاتلين. وبينما كنت أتكلّم بكلمة الله، أدهشني شابّ حين قاطعني، واعترف بأنّه دخل، في أحد الأيّام، بيتًا في قرية “مُعادِية”، وهناك وجد أمًّا وأطفالها؛ فاغتصب الأمّ أمام أولادها، ثمّ قام ليقتل الصّغار أمام أمّهم، فيما كانت هي تتمسّك برجليه وترجوه ألاّ يفعل شرًّا بهم. لكنّ النّتيجة كانت مقتل جميع الأبرياء في ذلك البيت. ومنذ ذلك اليوم، وهذا الشّابّ يواجه كوابيس مُخيفة، إذ كان المشهد الفظيع يمثل أمامه كلّ ليلة. وقاده هذا الأمر إلى البحث عمّا يُنَقّي ذاكرته ويُريح ضميره، فلجأ إلى المخدّرات الّتي زادت الطّين بلّة. وذات يوم، قرّر الاعتراف بخطيّته لِمَن ظنّه يستطيع مساعدته. وبينما هو يعترف بفعلته، سأله جليسه: “هل هؤلاء من بني قومِك، أو من طائفة أخرى؟” وعندما عرف أنّهم من طائفة أخرى، طمأنه وقال له: “ولا يهمّك. صَحتين على قلبك. ما تفكّر بالموضوع”. فَسَألتُه للحال: “وشو صار بعدها؟ هل ارتحت؟” أمّا هو فأكّد لي أنّ وضعه ازداد سوءًا.
مسكين هذا الشّابّ، وأمثاله كثُر في لبنان والعالم. فهناك عشرات الألوف من الّذين انخرطوا في الحرب؛ فقتلوا أو أمروا بالقتل، أو أمّنوا للقتلة الحماية، أو الغطاء السّياسيّ، أو الدّعم العمليّ والمادّيّ والمعنويّ والإعلاميّ والصّحّي وغيره. إلاّ أنّ جميع هؤلاء هم شركاء في خطيّة سفك الدّم؛ إذ لا فرق بين مَنْ يقتل زوجته أو عشيقها، أو مَنْ يقتل دائنَه، أو مَنْ يغتال غريمًا سياسيًّا، أو مَنْ يُفخّخ عبوة في باص أو شارع آمِن، أو مَنْ يقتل في مواجهة مُسلّحة، أو مَنْ يُجهِض جنينًا، أو مَنْ يفرح عند حصول قتل، أو مَنْ يغضب على أخيه… جميع هؤلاء سافكي دم بحسب حكم الله (متّى 5: 21-23؛ 1يوحنّا 3: 15).
إنّ القاتل يعتبر نفسه قاضيًا يحقّ له إنهاء حياة مَنْ يكرهه، أو مَنْ لا يستحقّ الحياة في نظره، وهو لا يدري أنّه تحت سيطرة الشّيطان الّذي كان قتّالاً للنّاس منذ البدء (يوحنّا 8: 44). وبينما يعرف الجميع أنّ القتل هو جريمة ضدّ الإنسان يُعاقب عليها القانون، إلاّ أنّ قليلين يعرفون أنّ الكتاب المقدّس يعتبر القتل جريمة ضدّ الخالق، ويُعاقِب عليها الله الّذي عمِلَ الإنسان على صورته (تكوين 9: 6)، لذا كانت الوصيّة: “لا تَقتُل” (الوصايا العشر، خروج 20: 13).
وقد يهرب القتلة من عدالة الأرض أحيانًا، إلاّ أنهّم لن يتمكّنوا من الهروب من عدالة السّماء المحتومة (رؤيا 13: 10). والقاتل يشعر في داخله هول ما ينتظره (1 بطرس 4: 15). هذا قايين مثلاً، بعدما قتل أخاه هابيل، ظانًّا أنّه انتصر وحسم الأمر، ارتعب في نفسه وخاف من أن تُدركه لعنة الدّم المسفوك ويمضي العمر تائهًا وخائفًا من أن يُقتَل (تكوين 4: 13-14). ومن يومها، والقاتل يعرف في داخله “أنّ ذَنْبه أعظم مِن أنْ يُحتَمَل”، وهو، في النّهاية، لَنْ ينجو من الدّينونة، إذ “لَيسَ لهُ حياةٌ أبديّةٌ ثابِتَةٌ فيه” (1يوحنّا 3: 15). لقد بقي شاول الطّرسوسيّ، الّذي كان “راضيًا بقتل استفانوس” وكان ينفُث “التّهديد والقتل” (أعمال 8: 1 و9: 1)، منخوس الضّمير إلى أن التقى بالمسيح، فرحمه وغسله من خطاياه وجدّد حياته.
أكتُب هذه الأسطر وأنا أُصلّي لتكون هذه الكلمات سببًا لخلاص كثيرين من الّذين تورّطوا في هذه الخطيّة الشّنيعة، ويعيشون آلامًا مُبرّحة بسببها، وليعرفوا أنّ القتل من أعمال الجسد الّتي تودي بهم إلى جهنّم (غلاطية 5: 21).
الحلّ، بالنّسبة إلى سافك الدّم المُعذّب بخطيّته، أن يصرخ من أعماق قلبه: “ارْحَمني يا الله حسبَ رحمتِكَ… لأنّي عارِفٌ بِمَعاصِيَّ، وخَطِيَّتي أمامي دائِمًا. إلَيكَ وَحدَكَ أَخطأت، والشَّرَّ قُدّامَ عَينَيكَ صَنَعت… اسْتُر وَجهَكَ عن خَطايايَ، وامْحُ كُلَّ آثامي. قَلباً نَقِيًّا اخْلُق فيَّ يا الله، وروحًا مُستَقيمًا جَدِّد في داخِلي… نَجِّني من الدِّماء (أي نقّني من الدّم الّذي سفكتُه) يا الله” (مزمور 51). الله يغفر. حقًّا إنّه يغفر للقاتل إن تاب وطلب الرّحمة والتّغيير والمُصالحة مع الله. وهو قادر على أن يجعل القاتل قدّيسًا حقيقيًّا، مُسالماً وينعمُ بالسّلام، مُحبًّا للآخرين، ومُبشِّرًا ينال الكثيرون، عبر شهادته للمسيح، الحياة الأبديّة.