لطالما تساءلْتُ: لماذا يرفض بعض المسيحيّين العهد القديم؟ وبينما كنت أتابع برنامجًا ثقافيًّا يستضيف أحد أعلام الشعر والأكاديميا صُدمتُ عندما صرّح أنّه يُفضّل الأساطير القديمة على العهد القديم الّذي يرفضه كليًّا ولا يؤمن به أبدًا. وإذ سأله مُضيفه مذهولًا عن سبب موقفه هذا، أجابه بثقةٍ واعتداد: “لم أجد في العهد القديم شيئًا روحيًّا، ويخلو من أيّة إشارة للحياة بعد الموت، وأنّ أيادي أنبيائه ملطّخة بالدم. وما قصّة الخلق فيه إلّا سرقة من قصّة الخلق البابليّة الأقدم منها!”
هذه ليست أوّل مرّة أسمع فيها موقفًا متجاسرًا كهذا، يصدر من مسيحيّ، بحقّ العهد القديم. وهنا أسأل: أهذا الموقف نابع من الخلاف العربيّ الإسرائيليّ؟ أو أنّه بسبب التعاظم القوميّ ضدّها، ممّا جعله يرفض ميراث اليهود النّبويّ من آبائهم؟
كيف نُوضّح لهؤلاء الرّافضين للعهد القديم، أنّ المسيح والعذراء ومتى ومرقس ولوقا ويوحنا وبطرس وبولس ويعقوب، وبعدهم جميع آباء الكنيسة الجامعة، اقتبسوه بكثرة مؤكّدين ثقتهم به وحبّهم له واحترامهم له ككلمة الله النبويّة التي حملت البشارة بمجيء مخلّص العالم؟ فالواضح أن بعض مسيحيّي منطقتنا المغالين لسبب أو لآخر ضدّ العهد القديم، والرّافضين له، يجهلون ما فيه ولم يقرأوه.
وأعود لشاعرنا الرافض للعهد القديم، فمن الواضح أنّه وإن كان يعلم أنّ ورود قصص الخلق في الأساطير القديمة يُظهِر اهتمام الشّعوب في البحث عن أصل الجنس البشريّ منذ قديم الأيّام، إلّا أنّه يجهل أنّ قصّة الخلق التّوراتيّة فتتميّز عن تلك الأقدم منها بخلوّها من خرافات الآلهة الميثولوجيّة، وهي تُظهِر أنّ إلهًا حكيمًا وقديرًا ومُحِبًّا خلق الإنسان واهتمّ به وأعلن ذاته له.
ولكون أديبنا يتحدّى أن نجد له نصًّا واحدًا عن الرّوح والأبديّة والخلود، فها أنا أشاركه قطعةً شعريّةً من سِفرٍ مميّزٍ من العهد القديم. والكلام لأيّوب النبيّ العربيّ الّذي تحتل رائعته الفلسفيّة الخالدة موقع القلب في الكتاب المقدّس، إذ عالجت موضوع الألم والرجاء في الحياة الإنسانيّة، عسى أستاذنا المخضرم يُعيد النظر بموقفه من كلمة الله. فأيّوب الذي خسر أولاده وصحّته وأملاكه واستشعر موته الآتي إليه كما إلى سائر البشر، آمن بالحياة الآخِرَة وبالخلود مع إله العهد القديم. واعترف أيّوب بكلماته المليئة بالتعزية واليقين والمصبوغة بالرّوح القدس: “أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَٱلْآخِرَ عَلَى ٱلْأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى ٱللهَ. ٱلَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي، وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ. إِلَى ذَلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي” (أي 19: 25-27).
أمّا اتّهام صديقنا الأكاديميّ لأنبياء العهد القديم بأنّهم مجرمون وأياديهم ملطّخة بالدم، فهذه دلالة أخرى لكونه لم يُقدِّر مصداقيّة الوحي الإلهيّ الّذي لم يُنقِّ سجلّات رجالاته من خطاياهم، إذ العصمة لله وحده، ولم يرَ في حياة هؤلاء نعمة الله المغيّرة التي جعلتهم أنبياءَ ورسلًا إذ تابوا عن خطاياهم وبشّروا بالخلاص ونادوا بالإصلاح. قد يفيد الّذين يرفضون العهد القديم ويُعادونه أن يسمعوا نصيحة يسوع المسيح الّذي أوصى: “فَتِّشُوا الْكُتُبَ” – ويقصد بها كتب العهد القديم – “لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي.” (يو 5: 39). إنّ قراءة الأسفار المقدّسة، بعهديْها القديم والجديد، تنير العقل والدّرب نحو الحياة الأبديّة.