الشهيدُ شخصٌ يُضطَهد ويُعذَّب حتى الموت في سبيل قناعة دينيّة أو مدنيّة التزمها وحملها وشهد لها ورفض التراجع عنها. معظمُ شهداء المعتقد يعتبرهم مُحبّوهم أبطالاً مُقدّسين يقتدون بهم فيبقونهم أحياء في الذاكرة والوجدان حتى بعد انقضاء زمن طويل على رحيلهم. افتتح المسيح شخصيًّا قافلة الشهداء في المسيحيّة، وغريب أن لا يُتوقّع من أتباعه السير في خطاه!
ويُطرح السؤال: أيمكن تبرير القتل لأيّ سبب؟ هل يُمكن أن تُبرّره فلسفة أو دين؟ ولا بدّ، ونحن نناقش أسباب استشهاد المسيحيّين وغيرهم من المـُضطَهدين لأسباب دينيّة أو عقيديّة، من أن نخلص إلى القول مع يسوع أن القتل ليس من الله بل من إبليس الذي “كان قتالاً للناس من البدء”.
يُصيبنا الدوار ونحن نسأل: ما الذنب الذي ارتكبه شهداء المسيح فاستَوجَب قتلهم؟ وتُطرح أسباب عدّة أخطرها تهمتان: التهمة الأولى، مقاومتهم الدين السائد؛ والتهمة الثانية، التآمر على المجتمع والدولة الحاكمة. وفي كلا الحالتين ينبري القاتل إلى إلقاء التهم وتلفيق الأعذار التي تُبرّر قتله ضحاياه. ونسمع في هذا السياق مثلاً أن الأرمن قد تآمروا على الدولة التركية فحصل ما حصل! ونسأل وما هو ذنب المسيحيّين عبر سائر العصور ليُضطهدوا؟ بماذا أذنب استفانوس ليُرجم، ويعقوب وبولس ليُقطع رأساهما وبطرس ليُصلَب بالمقلوب؟ وما ذنب آلاف المسيحيّين، زمن الامبراطورية الرومانية، ليُلقى بهم إلى الوحوش أو ليُحرقوا في الشوارع؟ وما ذنب الآلاف غيرهم من الذين عُذّبوا في ظلّ الدُوَل الدينيّة في الشرقين الأدنى والأقصى وشمال أفريقيا أو في كنف دول علمانيّة مثل روسيّا الشيوعيّة وألمانيا النازيّة وغيرهما؟ وللإجابة على هذه الأسئلة يفيدنا الاطلاع على ما توصّل إليه الرسول يوحنا عندما سأل: “ولماذا ذبح قايينُ هابيلَ؟” وأجاب: “لأن أعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة”.نراه في اختصار يقلب التهمة على القاتل: القاتل شرّير وأعماله تشهد له.
لكن هل من سبب جوهريّ آخر ليستحق هؤلاء القتل لأجله؟ نعم، قُتِلوا لأنهم ببساطة يحملون اسم المسيح. وقد سبق ليسوع أن أنبأ تلاميذه: “وتكونون مُبغَضين من جميع الأمم لأجل إسمي”. وهل في حمل اسم المسيح جريمة يستحقون لأجلها القتل؟ وهل إن اسم المسيح يُثير هذا الحدّ من الكراهية؟ يعني حَمْلُهم اسم يسوع والشهادة له ربّاً وحيداً، رفضهم الاسماء الأخرى الأمر الذي يُزعج أتباعها. وهنا بيت القصيد: الإيمان بربوبيّة المسيح هو السبب الأساس في اضطهاد المسيحيّين. ونسأل: ولماذا يقتلهم الآخرون إن اختلفوا عنهم في موضوع إيمانهم؟ ألا يُمكن أتباع الديانات الأخرى عدم الشعور بالتهديد عند اختلاف المعتقد فلا يتحوّلون إلى قتلة؟ أليست وظيفة الدين أن تُحوّل الإنسان إلى مسالِم لأخيه الإنسان؟
سيبقى من الصعب جدًا فهم كلّ أسرار الاضطهاد الذي يتعرّض له المؤمنون بالمسيح. لكن هناك، ولا شكّ، قوّة خفيّة تُستَفَزّ جدًّا عند ذكر اسم يسوع لأنها لا تقدر على أن تحتمله، فتتحرّك بشراسة ضدّ من يشهد له بهدف إسكاته. سبق ليسوع أن قال: “أذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبدٌ أعظم من سيِّدِهِ. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم”. أمّا تلاميذ المسيح فاعتبروا أنّه شرف كبير لهم أن يُضّطهدوا ويُهانوا لأجل اسمه. واستمرّت كنيسة المسيح لأكثر من ألفِيّتين تشهد له وتسكب الدماء المقدّسة من أجله.