ماذا يعني أن تكون مدرّسًا؟ وهل كلّ مَن يُعلّم يُعتبر مدرّسًا؟ وهل حقًّا ما يُقال إنّ كلّ مَن لا يقدر على القيام بعمل، يصير مُعلّمًا؟ لقد راودتني هذه الأسئلة، وغيرها أيضًا، خلال تجربتي القصيرة كمدَرِّسة، والّتي فيها حاولت، بتوقّعات وآمال كبيرة، خدمة الأولاد أكثر ممّا تسمح به الكتب المدرسيّة. كانت رغبتي في أن أُغيّر العالم من خلال التّلاميذ. لكنّ أفكاري ومفاهيمي هذه سقطت كلّها، كبرج بابل، عندما واجهت واقع الحياة المرّ، ليعلّمني الرّبّ فكرًا آخر أكثر واقعيّة، عن مشيئته لي كمُدرِّسة.
لقد حاولت، في كثير من الأحيان، الانسحاب والتّوقّف عن التّعليم، وذلك بسبب السّاعات الطّويلة والصّبر والجهد الّذي تتطلّبه هذه الوظيفة. وفي كلّ مرّة كنت فيها أقترف خطأ ما أو أشعر بالإرهاق، كان الإحباط والفشل هما سيّدا الموقف. ولكن، عندما أنظر الآن إلى تلك الأوقات الصّعبة فإنّني أراها بعَين أخرى. لقد حوّل الرّبّ حجار العثرة تلك إلى صخرة خلاص، أقف عليها وأنظر إلى الأمور بعينَين نقيَّتَين.
كنت أعلم أنّ النّجاح ليس سهلاً لكلّ التّلاميذ، وأنْ ليس كلّ ما سأُعلّمه لهم سوف يجد تربة خصبة بينهم ويُثمر. ليس السّبب أنّني مدرِّسة غير كفوءة، بل لأنّني كنت أحاول تأدية دور مختلف عمّا أراده لي الرّبّ. أردتُ أن أكون مدرِّسَة، وهذا ما أراده الرّبّ لحياتي. لقد واجهت الكثير من الإخفاقات؛ فكان بعض التّلاميذ يخيّب توقّعاتي وآمالي به، وبعضهم الآخر يفشل في امتحاناته أو لا يصل إلى المستوى الأكاديميّ الّذي كنت أتوقّعه منه. وفي أحيان أخرى، كنت فيها أحاول مساعدة تلميذ صعب المراس، عبر اهتمامي الشّخصيّ به أو بمساعدة أخصّائيّين، كنت أجد أنّ كلماتي تصطدم بحائط صلب وترتدّ إليّ. لكن، وعلى الرّغم من ذلك، كنت أحيانًا كثيرة أرى وميضًا في أعين تلاميذي، يعكس عطشهم للمعرفة والعِلم. وكنت أنسى كلّ العوائق والصّعاب الّتي كانت تواجهني عندما أنال تقديرًا من تلميذ، أو حتّى أسمع جوابًا صحيحًا عن سؤال.
إنّ التّعليم لا يعني نجاح الصّفّ بكامله، أو رؤية نتائج الجهد الّذي بذلته في وقت قصير. بل المدرِّس هو كالمزارع الّذي يعمل في شراكة مع الله والآخرين؛ عليه أن يبذر البذار وألاّ يتوقّع الحصاد في الوقت نفسه. وعملي كمُدرِّسة هو أن أزرع بذار العِلم والمعرفة، في مدرسة الأحد أو في المدرسة أو الجامعة أو حتّى في البيت مع أولادي أو إخوتي الصّغار. لقد علّمني الرّبّ أنّ عملي، كمُدرِّسة، هو أن أعطي من دون مقابِل. ولكن، ليس هذا وحده هو واجبي كمُدرِّسة.
في عودة إلى العبارة الّتي ذكرتها في البداية: “كلّ مَن لا يقدر على القيام بعمل ما، يصير مُعلّمًا”، والّتي قد تبدو صحيحة، على الرّغم من تناقضها مع الحقيقة والواقع. فالله يختار الضّعيف ليُرشد القويّ، وغير القادر ليُعلّم الآخرين. قد يجوز أنّ الله لم يخترني لأنّني الشّخص الأنسب لمهنة التّعليم، لكنّه منحني القدرة والموهبة كي أُعلّم. إنّ أهمّ ما تتطلّبه مهنة التّعليم هو: أن نعمل قبل أن نعلّم؛ فالّذين لا يقدرون على القيام بعمل ما لا يستطيعون أن يعلّموه. لقد علّمنا الرّبّ أن نحيا بحسب ما نُعلّم به، وإلاّ فإنّ شهادتنا باطلة وفارغة. الإيمان من دون أعمال لا يفيد شيئًا. لذلك، على المُدرِّس أن يعيش ما يُعلّمه، وأن تكون حياته خير مثال لتلاميذه.
هناك مُعلّمون عظماء في التّاريخ، ولكنّ أعظمهم على الإطلاق هو الرّبّ يسوع المسيح، الّذي علّمنا أن نحيا بحسب ما نُعلّم وإلاّ فإنّنا نكون مُرائين. لم ينتظر المسيح أن يحصد ما زرعه في قلوب سامعيه وأذهانهم، بل ترك العمل للرّوح القدس. وهكذا نحن أيضًا، يجب ألاّ نننتظر متوقّعين الحصاد. يجب ألاّ نفشل عندما تواجهنا العوائق والصّعوبات، بل ننظر إلى ملك الملوك الّذي تألّم كثيرًا وهو يحاول أن يعلّم الآخرين قبلنا. لا تدعوا العثرات تُصيبكم بالفشل، بل تعلّموا درسًا جديدًا كلّما واجهتكم، انهضوا وانفُضوا الغبار عنكم وتسلّقوا صخرة الخلاص فتنظروا حولكم نظرة جديدة أفضل.
إنّ مهنة التّعليم هي إحدى الوظائف القليلة الّتي تتطلّب أن يكون لنا دور هامّ في تغيير حياة الآخرين وإعادة تشكيل عقولهم وأفكارهم. ولكن، يجب أن نتذكّر، أنّنا لسنا هنا لتأدية دور الله، بل أن نكون أداة في يده كي يستخدمنا للوصول إلى عقول النّاس وقلوبهم. فالله سوف يستخدمنا لنكون قدوة للآخرين إن نحن سمحنا له بذلك. قال أحدهم:
إنّ المدرِّس العاديّ يُخبِر
والمدرِّس الجيّد يشرح
والمدرِّس القويّ يُبرهِن
والمدرِّس العظيم يُلهِم.