نُفاجأ إذ نعرف أن قايين ابن آدم، القاتل الأوّل، بنى أوّل مدينة في التَّاريخ، وسمّاها على اسم ابنه حنوك، وفيها طلب الحماية والاستقرار خلف أسوار أقامها ليحمي نفسه من أيّ انتقام لدم هابيل أخيه الذي سفكه بلا شفقة. إلّا أن “المدينة” الَّتي بناها قايين لم تحمه. فالخروج من “مدينة الله” والدخول إلى “مدينة الإنسان” لم يوفِّر حياة سعيدة واستقرارًا وحماية فقدها أهل المدن في جميع الأجيال.
أمّا ثاني مدينة في التاريخ البشريّ، فكانت بابل، وبناها نمرود أحد أحفاد نوح، واسمه يعني “العاصي” أو “المتمرِّد”. وكان نمرود “جبَّارًا في الأرض” وتزعّم قبيلته ليس بأبوّته، بل بسطوته عليها. وقد أورث نمرود ملوك بابل بعده، ومنهم نبوخذنصّر، تأليه الذات وروح القسوة والبطش الَّتي اشتهروا بها مع جيوشهم. أمّا أهميّة بابل فكانت أنّها أول “مدينة مملكة” في التَّاريخ، شهدت أوّل عمران مـدينيّ وتطوّر سياسيّ وسطوة عسكريَّة ونهوض اقتصاديّ وزراعيّ وحضاريّ حتى عُدَّتْ بابل ونينوى “مَدِينَةً عَظِيمَةً للهِ” (يون 3: 3).
من يدرسْ قصّة بابل وبرجها يرَ أن مخاطر شتَّى تواجه الناس في المدينة والمدنيَّة. فالمدينة العظيمة التي بُنِيَت لمجد الإنسان، تحوّلت لتصير مجتمعًا اقتصاديًّا وحربيًّا في آن، فوصّفها النبي ناحوم بـ”مَدِينَةِ الدِّمَاءِ. كُلُّهَا مَلآنَةٌ كَذِبًا وَخَطْفًا.” (نا 3: 1). يقول القانونيّ الفرنسيّ جاك إيلّول، في كتابه The Meaning of the City: “المدينة هي المركز الَّذي تُشنّ منه الحرب. الحضارة المدنيَّة هي حضارة محاربة، لا يتمايز البنّاء فيها عن المحارب”. وما قصّة بابل سوى كشف لحقيقة حضارة المدن حيث تدور الحروب لأسباب اقتصاديَّة واجتماعيَّة وسياسيَّة.
أمّا القصّة البيبليّة عن حكم الله بدمار بابل وبرجها وتشتيت أهلها فتقول لنا ثلاثة أمور، أولًا: الله سيّد في مملكة الناس وسلطانه فوق سيادة المدينة الَّتي كانت ستظلم باقي المدن والحضارة البشريَّة في وحدتها الصارمة والمتفاخرة. ثانيًا: في كلّ مدينة “شرّ مُدُنيّ” يُعجّل بوصولها إلى انتهاء “تاريخ الصلاحيّة” ليكون بعدها دور لجيل آخر ولمُدُن أخرى. ثالثًا: إن المدينة والدَّولة لا تصلان إلى اكتمال مشروعهما السِّياسيّ والاقتصاديّ، في أيّ وقت من الأوقات، وأن البشر عاجزون عن التقدّم السِّياسيّ باستمرار ومن تلقاء ذواتهم، فلكلّ أمبراطوريَّة ولكلّ حضارة صعود ونزول ونهاية يقرّرها الرّبّ. (تك 11: 6-9).
من يدرس الأناجيل المقدّسة يرى أن يسوع لم يكن مبهورًا بالمدن إذ عرفها على حقيقتها، وعرف حقيقة إنسانها، فقال الويل لها. فبيت لحم، وبقسوة غير إنسانيّة، رفضت استقبال العائلة المقدّسة ومريم حُبلى بالمُخلّص. والناصرة حيث ربِيَ يسوع أرادت رميه من الجرف الصخريّ. وأورشليم المقدّسة صارت “قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا” ورفضت المسيح وصلبته خارج أسوارها فتنبّأ أنّها لا يبقى فيها حجر على حجر.
ومع هذا نظر يسوع إلى المدن نظرة عطف وحنو. كان شعاره: “يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ الْمُدُنَ الأُخَرَ أَيْضًا بِمَلَكُوتِ اللهِ، لأَنِّي لِهذَا قَدْ أُرْسِلْتُ.” (لو 4: 43). وهكذا قصد المدن وطاف فيها مُعلّمًا ومُبشّرًا وشافيًا كُلّ ضعف في الشعب. فهو عرف أن المدن مملوءة بالخطايا والآثام والصراعات والتآمر والتمييز الطبقيّ والجور والإذلال والثورات والضغط والقسوة والجراح والآلام والاحتكار والفقر والجوع والتشرّد والقهر والسرقة والجريمة والبؤس للجميع، وهي تحتاج إلى لمسة إلهيّة شافية. وأرسل يسوع تلاميذه ليُبَشِّروا من بيت إلى بيت في كلّ مدينة وقرية ليبني الملكوت ويُجهّز المؤمنين للمدينة السماويّة التي صعد إلى السماء ليُعدّها لهم.
كان على أثر سقوط روما المدينة التي كان يُظَنّ أنّها أزليّة لا تسقط، أن أغوسطينوس وضع كتابه “مدينة الله” ليقول إن روما، وهي التي أسّسها بالدّم كلّ من رومولوس وريموس رضيعي الذئبة، والتي أحرقها نيرون بجنونه، وسقطت أمام قبائل الفيزيغوت، هي مدينة ماديّة مصيرها الهلاك. أمّا مدينة الله فسماويّة وأبديّة. والمدينتان تبقيان في صراع حتى نزول أورشليم الجديدة، المدينة السماويّة، التي صانعها وبارئها الله، والتي يتوق إليها المؤمنون بإيمان وبشوق وبرجاء معتبرين أن ليس لهم مدينة باقية هنا، بل ينشدون الملكوت الذي لا يتزعزع. (عب 11: 10؛ 12: 28؛ رؤ 21: 2، 10).