“وَعَلَى أَثَرِ ذَلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاِثْنَا عَشَرَ. وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ.” (لوقا 8: 1-3).
نساء يخدمن المسيح من أموالهنّ! أدركت تلك السيدات أنّ المال لم يوجد في الحياة إلا ليُصرَف على القضايا الكبرى. المال لهنّ ليس للسخافات وللتكديس وللمجد الزائل. سبق لتلك النسوة أن اختبرن نعمة الشفاء من أمراض وأرواح شريرة. وعرفن أنّ من شفاهنّ يستحقّ كلّ ما في الحياة، فقدّمن له ما معهنّ. وفي هذا القليل ليشكرنه. يعرفن أنّ ما فعله في حياتهنّ لا يُقدّر بثمّن. رحمهنّ إذ حررّهن من ربُط وذلّ وانحناء وعبوديّة. فلِمَن تحيا أيّ منهنّ بعدما اختبرت نعمته؟
عرفت تلك السيّدات أن الحياة قصيرة فلم يسمحن لأنفسهنّ بأن يُفرّطن بها. أردن استخدام أيّامها لقضية كبرى وضعن كلّ ما عندهن في خدمتها. لم تجِدن أفضل من يسوع تلحقن به وتعشن من أجله. ولم تجِدن دورًا يُشرّفهن أفضل من الانخراط في قضيّة ملكوته. ووضعن في يده كل ما امتلكته أيديهن. عرفن أنّ مالهنّ يُبارَك عنده. والغالي من أجله يرخص. فالمجدليّة ربطتها الشياطين قبل أن تتعرّف إليه. وزوجة وكيل هيرودس، أذلّتها شِبَاك الفساد والظلم قبل أن تلقاه. وسوسنّة استعبدتها المرآة قبل أن تُدرِك أنّ الحياة أثمن من أدوات الزينة.
تلك النساء عرفن أنّ المال وُجد ليُستخدَم لا ليُعبَد. أيقنّ أنّ حياتهن ليست من ما لَهن. وأنها لا تستمدّ قيمتها ممّا تحتفظن به لأنفسهن، بل من الذي تحيين لأجله. لم تُسوّس جيوب تلك نساء من اكتناز دنانير الهوان، بل فتحن أيديهن لتُقدّمن ما لهن لمن وهبهن كرامة الحياة. تميّزت تلك السيّدات بممارسة العطاء أكثر من الأخذ. فكنّ مغبوطات أكثر من أترابهن. برهنّ على أنّ مالهنّ ليس إلهاً لههن. فلسن من طينة عُبّاد المال الّذين انحنت جباهَهُم كُفرًا أمام إلهٍ كاذب. وأكثر من هذا، عرفت تلك الفاضلات أنّ ما يشدّهن إليه هو بهاءه الأزلي فأخذنه قُبلَة لأرواحهنّ. له تُقدّم الذبائح. وله تُرفع القرابين. وله وحده تُرهَن الأرواح.
كانت تلك القدّيسات بركة لغيرهنّ ممن تبعن الحبيب اقتداء بهنّ. إنهنّ نساء رائدات عبَّدن طريق العطاء أمامنا. فهل يحتاج السيّد لمالهن ولمالنا، وهو الذي “لاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ؟” هو بالتأكيد لا يحتاج إلى شيء من عندنا. بل نحتاج نحن إلى أن نُبرهن له أننّا نتّكل عليه للحياة وليس على مالنا. قدّمت تلك السيدات مالهنّ لمن “يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ”، وأعطيننا مثالاً يُحتذى فنقول معهنّ “لك الجميع ومن يدك أعطيناك”. وهو، من جهته، كرَّمهُنّ بقبول الهديّة منهنّ فجعلَهُنّ شريكات له في خدمة النفوس الخالدة التي أحبّها وجاء لأجلها.
عندما يلتقي المرء بالمسيح، يعرفه بأنّه السيّد، وبين يديه توضع الحياة، وعند قدميه تُهرَق ثروات الأرض رائحة طيبٍ لمسرّته ولمجده. وهل يسأل بعد من اختبر فيض نعمته عن الغد وكيف يأكل ويشرب ويلبس؟ لقد تركت لنا تلك القديسات مثالاً يُحتذى بممارسة الإيمان الفعليّ فصرن أجمل من زنابق الحقل وأكثر حرّية من عصافير السماء إذ عرفن من هو أبوهنّ الذي يعتني بهنّ.