إنّ تسمية الكتاب المقدّس “الطاعون” لما كان يحدث في الأيَّام الغابرة نطلق عليه اليوم تعبير الوباء. هل يا تُرى نمتلك الحكمة في تقدير الأحداث المتسارِعة التي نُعاينها ونختبر ظروفها؟ ولماذا الانتشار السَّريع للأوبئة؟ وما مدى تأثيرها في عالَمنا المحتضِر؟
تأثير الوباء المستجِّد في عالَمنا اليوميّ
نرى في هذا اليوم المفصليّ من تاريخ البشريَّة الحديث، فيروس كورونا (2019-nCoV/COVID-19) المستجِّد والفتَّاك ينتشِرُ كالوباء حول العالَم. أشارَت منظَّمة الصحَّة العالميَّة مؤخَّرًا إلى وجودِ أرقامٍ مرعِبة للعدوى تتزايدُ تصاعديًّا. ماذا يجري حولَنا، هل تفلَّتت الأمور، ولماذا هذا الخوف من وباءٍ ضربَ العالَم قبلًا على مدى عقودٍ طويلة؟
تتوقَّف حركة الحياة تدريجًا كلَّما تزايدت حالات العدوى بالفيروس القاتل. تحدّدت حركة التَّنقُّل عبر البلدان خوفًا من انتشاره. أُلغيَت المؤتمرات والندوات وأُقفِلت قاعات المحاضرات، والتزم النّاس حَجْرًا صحيًّا اختياريًّا. وإن كانت أنواعٌ أخرى من الفيروسات قد فتكت بالملايين، ففيروس كورونا تحديدًا يبثُّ الخوفَ والرّعب، ربَّما لأنَّنا نجهل كيفيَّة انتشارهِ وعُمق تأثيرهِ الصحيّ على المديَين المتوسِّط والبعيد.
يُسبِّبُ فيروس كورونا نوعًا حادًّا من الالتهاب الرئويّ غير مألوف يُضعِف معهُ قدرةَ المريض على المقاومة، فيخفتُ نبضُ القلب ويثقُل التَّنفُّس وتتأثَّر وظائف الكِلى والرّئتَين. هل هذا الوباء علامةً فارقة في زمن العِلم والتّكنولوجيا، أم مُجرَّدُ حدثٍ استثنائيّ سيخبو مع الأيَّام؟ وهل يُمكِن اعتباره أحد العلامات المذكورة عن الأيَّام الأخيرة في الكلمة الإلهيَّة؟ يصعبُ القول تحديدًا، فالأوبئة رافقت البشريَّة منذ نشأتها. فلماذا يقدِّم البعض بُعدًا استثنائيًّا لهذا الوباء ويُشدِّدون على اعتباره مفارقةً في تاريخنا الحديث؟
الوباء المستجِّد وأبعاد النبوَّة الكتابيَّة
يُقدِّمُ سفر الرّؤيا صورةً نبويَّة قاتمة لأربع فرسانٍ يمتطون أحصنةً ذاتِ ألوانٍ مختلِفة (رؤ١:٦-٨). تميّز الفرسان الثّلاثة الأُوَّل بقدراتٍ فائقة، أمّا صفات الرّابع فمختلفة (رؤ۷:٦-٨)، يميل لونه إلى لون الجسم الميِّت ويجلب الوباء الّذي يُسبِّب الموت. ونجد، بالإضافة إلى أوبئةٍ أخرى، وصفًا مُخيفًا لثوراتٍ وأحداثٍ عالميَّة. فهل هو زمن الأيَّام الأخيرة والويلات والدَّينونات الإلهيَّة؟ إنَّها بدون شكٍّ أيَّامٌ عصيبة تختبرها الأمم الَّذين أخطأوا إلى الله خالِقهم ورفضوا عبادة الإله الحيِّ الحقيقيّ وحدَه. يستخدم الله العوامِل الطبيعيَّة والأرضيَّة لإتمام دينونتهِ المحقَّة وجَلْبِ هذا الدَّهر الإنسانيّ إلى نهايته الحتميَّة.
تُحاكي هذه الأوبئة تلك المذكورة في سفر الخروج عندما ضرب الرَّبُّ المصريِّين وأرضَهم قُبيل خروج الشّعب من العبوديَّة (خروج١:٦). تصلّبوا واستخفّوا بقدرة الله العجيبة. حوَّل الرَّبُّ المياه إلى دمٍ، وأطلق العِنان لأمواجٍ من الجراد، وضربهم بالدَّمامل والأوبئة والآفات المؤلِمة، ثمّ قتل أبكارَهم. فكان الحدَث الأخير الضّربة القاتلة الّتي أخضعت فرعون العاتي، وجعلهُ يطلق شعب الرّبّ إلى الحريَّة. هل الأحداث الواردة في سفر الخروج حقيقيّة بأبعادٍ نبويّة؟ وهل يمكن اعتبار سفر الرؤيا إنذارًا لما ينتظِر البشريَّة في المستقبل؟ انتقد كثيرون من المثقّفين واللاهوتيّين نبوّات سفر الرّؤيا وأحداثًا كتابيّةً أخرى، فشكّك الناس بالكلمة الإلهيَّة ومصداقيَّتها.
الكورونا وديناميكيّة العلم الحديث
نحن اليوم أمامَ مشهدٍ مُختلفٍ لأنّه حقيقيّ ويؤثِّر في مجريات حياتنا. منذ ظهورهِ احتلَّ هذا الفيروس الخبيث العناوين الرئيسيَّة، واستحوذ على اهتمام النّاس وانتباههم، فانتابهم الخوف والقلق. ألقيتُ في النّصف الأوّل من شهر آذار محاضرة مُوسَّعة عن فيروس كورونا في إحدى الجامعات الأمريكيَّة في بيروت. تناولت في المقدّمة باقتضاب المعلومات الّتي بثّتها مواقع إخباريَّة عريقة مثل ’CNN‘ و ’BBC‘ مشيرة إلى احتمال أن يكون هذا الفيروس مُهندَسًا جينيًّا. لم أُركِّز كثيرًا على هذا، بل وجّهت الأنظار إلى المصادر والتَّوصيات العلميَّة والطبِّيَّة المتعلِّقة بالفيروس للوقاية منه ولمكافحته كما قدَّمتها منظَّمة الصحَّة العالميَّة ومركز مكافحة الأمراض الأمريكيّ.
الكورونا وسلطان الله
رافق هذا الفيروس عناوين فضفاضة كثيرة طرحت أسئلة محيّرة، ماذا حلَّ بعالَمنا المستقرِّ والمنظَّم نسبيًّا؟ ولماذا هذه الفوضى العارمة المسوقة بالخوف تجتاح مجتمعاتنا؟ يجب علينا كأولاد الله أن نفهم موقع هذا الحدَث العالميّ الاستثنائيّ، كما وأحداث سابقة أو معاصرة، بالنّسبة إلى الصّورة الكبرى الّتي تُغطِّيها النبوَّة الكتابيَّة. وحده الكتاب المقدّس يفسّر عالَمنا، ماضيه ومستقبله. من يؤمن بعصمته يدرك سيادة الله على مجريات الأمور العالميّة ويعرف عمق خطّته لحياته وللآخرين. كيف يمكننا سبرَ غورَ هذه الأحداث الأخيرة والمقبلة إن لم نُعطَ روح المشورة والفهم (إش٤:٥٠)؟ ينبغي طرح الأسئلة الصَّادقة الّتي تقود إلى الحقِّ فلا نتسرَّع باستنتاجاتٍ وأبعادٍ لا تُمثِّل الحقيقة.
دينونة شاملة ورجاءٌ أكيد
يجب التَّدقيق في مصادر المعلومات المستقاة لمعرفة النبوَّة الكتابيَّة بتجرُّدٍ تاركين للرّوح القدس إرشادنا إلى ينابيع المعرفة والحقّ. فالأحداث العالميّة اليوم، ومن بينها الأوبئة، ما هي إلّا ومضات لأحداثٍ مقبلة على العالم بأسره. لا يمكننا فصل الأحداث عن بعضها، وهي تؤذن لحقبة دينونة الله العادلة لِعالَم شرِّير. إنّها بمثابة إنذارٍ للبشريَّة كي تعيَ المقاصِد الإلهيَّة فتتوب وتعود إلى عبادة الله (٢بط٩:٣). وإذا تألَّم الأبرار قبل انطلاقهم للأمجاد، وأخذوا حيِّزًا لا يُستهانُ به من آلام الزّمان الحاضِر، ذلك لأنَّ جميع البشر تحت سلطان الله وحُكمهِ العادل، وسيمثلون في محضره القدّوس، وهو الّذي يبرّر ويدين. لا يخلو كثرة الكلام عن فيروس كورونا من الخطأ والمبالَغة، تمامًا كما فعل أيوب يوم تذمَّر بإصرارٍ غير اعتياديّ على قضاء الله العادِل.
كلّ أحداث العالم هي في عِلم الله السَّابق وتدبيره للبشريَّة الّتي يدعوها للرّجوع إليه قبل انسكابِ غضبهِ الشَّامل. يثق المؤمن بأنَّ العليّ سترٌ له في عالَمٍ موبوءٍ ومضطّرب (مز١:٩١-٣). فيختبئ في أحضان النّعمة الإلهيَّة وتحت ظلِّ جناحيه حتّى يعبرَ ظلمُ وادي الدُّموع! لا يخاف بل يعلم يقينًا أنّ الربّ الكليّ المعرفة هو مرساةُ نفسه، وحافظُ جسده وروحه، وملجأه الحصين.