لطالما كنت وحدي منذ طفولتي. كان أبي غائبًا في السّفر معظم الوقت بسبب عمله خارج لبنان وكانت أمّي تهتمّ بالعائلة بمفردها في ظلّ حربٍ بشعة. كان الفارق العمري بيني وبين إخوتي كبيرًا. لذا كنت أدرس وحدي، آكل وحدي، أقضي وقتي وحدي بحسب ما فرضت علينا الظروف آنذاك. لم يكن هناك وقت للمرح والرّاحة. كانت الحياة رماديّة وسريعة. ولكن، رغم ذلك، لم أكن وحيدة. كانت لديّ كتبي، قصصي، ألعابي، ورفاق المدرسة ثمّ بعد ذلك الجامعة. وهكذا لم أكن أشعر بوحدة داخليّة.
ولكن في معترك العمل، ومع الوقت، فقدتُ جزءًا من طفولتي واستقراري وتعرّفت على أناسٍ شكّلوا لي تحدِّيًا في الحياة. عندئذٍ بدأت أفكّر وأحلّل وأفصّل الأمور بعمق، فتغلغلت إلى داخلي مشاعر غريبة لم أعهدها من قبل. وبالرّغم من وجودي وجلوسي مع الرّفاق، صرت أشعر بالوحدة في داخلي. ورغم الضجّة المحيطة بي لم أكن أسمع سوى أفكاري. نفسي تئنّ، أريد سندًا ولا أجد من يفهمني. فلمن أشتكي وأسكب ما في داخلي؟ كلّ الناس حولي لديهم مشاكلهم وهمومهم. كنْتُ أغرق أكثر وأكثر بشعور الوحدة الّذي كان يتملّكني. أصرخ في داخلي للرّبّ. ولكنني فيما بعد تعزّيت عندما علمت أنّه حتى الكثيرين من رجالات الله في الكتاب المقدّس مرّوا بهذا الاختبار وهذه التّجربة. فداود مثلا يقول “لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنّين فيّ، ترجّي الله لأنّي بعد أحمده خلاص وجهي وإلهي”. ويقول إيليّا في مرحلة من حياته “تعبت. أنا وحدي”. أمّا الرّسول بولس فقال: “الجميع تركوني لا يُحسَب عليهم”.
وابتدأت أسأل: ما العمل؟ كان لا بدّ ان أنهض بنفسي وأستمرّ. لم أبقَ هكذا طويلاً فقد اكتشفت ثلاث خطوات بسيطة ساعدتني لكي لا أغوص بوحدتي:
أولاً: أيقنت أنني لسْتُ وحيدةً بالحقيقة. الرّبّ الّذي خلقني يعرف داخلي وأفكاري ومشاعري ويريد أن يشاركني حياتي، ولديه كلّ الوقت ليسمعني بل يدعوني لكي ألقي عليه كلّ شيء. لذا فأنا أفتح قلبي له أضع أمامه كلّ أفكاري لأنّه يفهني ويعينني.
ثانياً: أيضًا أفتح قلبي لصديق حقيقيّ يحبّني بصدق، لديه الحكمة والإخلاص لكي يبني حياتي. صديق يسمع ويشعر، صديق حكيم يحلّل الأمور بطريقة سليمة ويرشد بإخلاص. تقول الحكمة الإلهيّة: “ويل لمن هو وحده إن وقع ليس ثان ليقيمه”. حاوط نفسك بصديق يرفعك ولا يتعبك. وإن لم تجد من أصدقائك من يساعد إبحث عن شخص رزين وحكيم مشهود له واطلب مساعدته فالأشخاص المتجرّدون عمليّون يسمعون ولا يحكمون اعتباطيّا ولا عاطفيّا بل بحق.
ثالثاً: انتفض واشغل نفسك بأمور بنّاءة. لأنّ الجلوس وحيدًا والتأمّل بحالتك هي كمن يحفر مكانه فيغرق في حفرته أكثر وأكثر. إرفع رأسك واغسل وجهك واستفِد من وقتك بالعمل والإنشغال مع الآخرين.
هذه خطوات عمليّة لكي تبقيك متّزنًا. أما إذا تأزّمت حالتك وكان شعورك من النّوع المرضي فصرت منزوياً وسوداويّا غير قادر بأن تنهض نفسك، ويتغيّر نمط حياتك وأصبح يؤثّر على من هم حولك. فاستشر معالجًا أو طبيبًا نفسيًّا لأنّ نفسك عزيزة عند الرّبّ كما جسدك فلا تهملها. الله يريدك أن تكون صحيحًا ومتعافيًا وناجحاً، ولقد سخّر العلم والطبّ لخدمة الانسان.
أخيراً إذا كنت وحيداً فاعلم أنك محبوب. الله يريد أن يضمّك إلى صدره ويربّت على رأسك ويقول لك أعطني حملك واسترح على الأذرع الأبدية. تذكّر وعده: “أنا معك”. ينصحنا بطرس الرسول من خبرته في الحياة: “ملقين كل همّكم عليه لأنه هو يعتني بكم.”