لكلّ عصر وزمن صعابه وتحدّياته؛ لكنّه ما من شكّ في أنّ أيّامنا هذه فاقت بمشاكلها كلّ ما سبق. ولا يمكننا التشبّه بالنّعامة وندفن رؤوسنا في الأرض ونتصرّف كأنّ هذه المشاكل ليست موجودة. لا بدّ من أن نفهم نوع الضغوطات، بل المخاطر التي يواجهها أولادنا اليوم لنتمكّن من مساعدتهم في شكل فاعل. تكاد تجد معظم الأهل متعبين وحائرين وضائعين لا يفهمون ما يحدث لأولادهم ولا يفقهون تصرفاتهم وأفكارهم وتجاربهم.
مخاطر أيامنا
من المخاطر التي تحيط بأولادنا اليوم:
تقلّص العلاقات العائلية، إذ لم تعد العلاقات متينة اليوم مع الأقارب والأعمام. ونحن بالكاد نشعر بوجود العائلة الأبعد، بل إننا قد لا نكترث لوجودها بالمطلق. لكن بماذا يؤثر هذا الأمر؟ إنه يؤثّر كثيراً على الفرد، فيزداد وحدةً وتفرّداً وينتفي الدعم الأسري والعائلي. وقد كانت العائلة على الدوام هي الشّبكة الحامية للإنسان. كما إنّ الاختلاط الأوسع شكّل مصدر ثقافة واحتكاك وبنيان للشخصيّة وللعلاقات. كما شكّلت العائلة الأوسع مصدرَ تسليةٍ ودعم وصداقات بين أولاد العم. أما اليوم فبات مجتمع الفرد يقتصر على العائلة الأضيق التي بدورها أصبحت أصغر وأصغر إذ تكتفي الأسر بولدين أو بثلاثة في أفضل الحالات. وفي الكثير من الأحيان يتفرق الإخوة أيضا بدافع السفر للعمل أو للدراسة.
عمل الأم. لسنا بالطبع أبداً ضد تطوّر المرأة وعملها ودورها في المجتمع. لكنّ لكل شيء ثمن. ففي معظم الأحيان، يأتي غياب الأم لساعات طويلة عن منزلها وأولادها على حساب الأولاد والتربية إذا لم يتنبّه الأهل لهذا الأمر. فلم يعد هناك من مجال لقضاء الوقت مع الأولاد في تدريسهم واللعب معهم والمشاركة في المزاح والضحك والمناقشة. ناهيك بالضغط الذي يسود العلاقات المنزلية.
التكنولوجيا الحديثة. لا شك في أنّ التكنولوجيا أدّت إلى نقلة نوعية كبيرة في كل المجالات. لكن الأمر خلّف آثاراً سلبيّة أيضاً، بالرغم من الحسنات الكثيرة التي لا تعد للتكنولوجيا على كل الصعد. فدخول عالم الكمبيوتر والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية إلى مجتمع الأولاد وبسن صغيرة جعل الولد يتفرد بعالمه الخاص الأمر الذي زاد في بعده عن الأهل والمجتمع. وصار الأهل بعيدين كل البعد عما يفعله أولادهم الأمر الذي أفقدهم السيطرة والسلطة. ناهيك عن المخاطر الأخرى المتمثّلة بالاختلاط مع أشخاص مجهولين فاسدين وبالعلاقات الممنوعة، وبالإدمان على الإنترنت (وهو متفشّ بكثرة اليوم وخطره خطر إدمان حقيقي cyber addiction)، وبالتعرض للإباحية…. وفي إحدى الدراسات صرح 61% من الأولاد انه لا يمكنهم الاستغناء عن الإنترنت.
الآفات الاجتماعية المتكاثرة كالمخدّرات والكحول وخطرها في المجتمع. تكاد لا تجد اليوم ولداً لم تُعرض عليه المخدّرات بطريقة أو بأخرى. وتشير الإحصاءات إلى زيادة في الإدمان بكل أنواعه، من التدخين إلى المخدرات والكحول.
المنافسة الحادة في عصرنا. لا يكفي اليوم أن يفهم الولد دروسه وحسب، بل يجب أيضاً أن يكون ضليعاً ومتفوقاً في الكثير من الأمور. وصار ضغط العلم كبيراً جداً. كان الشخص يكتفي في الماضي بالوصول إلى الشهادة المتوسطة، وأصبح من الضروري اليوم أن يحصّل الماجستير أو الدكتوراه. وهو ما أضاف الكثير من الضغوط على الولد وبالأخص إذا انتفت لديه الكفاءة الذهنيّة للتفوّق.
ضغط الجمال والشكل وبخاصة للفتيات. تتعرّض الفتيات لضغط نفسي كبير يفوق التصوّر لتبدو كل واحدة منهن كملكة جمال. وجه جميل، جسم ممشوق، وزن مثالي، أناقة رفيعة… لكن ماذا لو كانت الفتاة عاديّة أو أقل؟ ماذا سيفعل بها هذا الأمر؟ سيتسبّب لها حتماً بالكآبة النفسية وبعدم الثقة بالنفس ويجعلها عرضة للتعليقات والملاحظات من كل حدبٍ وصوب، إلى أن يتملّكها هاجس الجمال. ويصحّ هذا الأمر إلى حد كبير وبالأخص في مجتمعنا في لبنان. إذ يُحكم على الفتاة من شكلها فيؤثّر ذلك على إمكانية توظيفها وتقدّمها وزواجها وصداقاتها وقبولها ورفضها في المجتمع. مما يلقي عليها بعبء ماديّ ونفسيّ هائل.
الانفلات الجنسي. يبدأ معظم مراهقي اليوم بالعلاقات العاطفية في عمر مبكِر باعتبار ذلك من متطلبات الشباب العصريّين. وكثيراً ما تقودهم هذه العلاقات إلى تورّط جنسي مع كل ما يتبعه من أزمات عاطفيّة، جنسيّة ونفسيّة كثيرة تترك أثراً بليغاً في حياتهم؛ كما إنّ فضولهم وحبّهم للتحدّي والمغامرة يدفعان بهم إلى أن يجرّبوا كل غريب الأمر الذي قد يقودهم إلى انحرافات خطيرة تخلّف أثراً دائماً وتعقيدات كبيرة تؤثّر على مستقبلهم العلمي والحياتي وعلى زواجهم في المستقبل. وقد أثبتت الدراسات الحديثة ازدياد حالات الكآبة لدى المراهقين وازدياد حالات الانتحار.
مشاكل تنمّر الرفاق Bullying. هذه من أصعب الضغوطات التي يتعرض إليها المراهق. تسيطر على ذهنه وتسبّب له الخوف المستمر. كثيرا ما يكون الاستهزاء والسيطرة مبنيّان على شكل الولد أو على وضعه الاجتماعي أو حتى أحياناً على تفوّقه. فحتى المتفوّق يعاني من الرفض والعزلة والاضطهاد المعنوي.
الخوف من المستقبل. خاصة عندما يُشارف على نهاية سنوات المدرسة الثانويّة: أيّ اختصاص نأخذ، أيّة جامعة، أي عمل، هل أسافر أم لا. كل هذه تشكل الكثير من الهموم.
هذه باختصار أهم المخاطر التي يتعرض لها أولادنا. هل نيأس؟ هل نستسلم؟ هل ننزوي؟ هل نتقاعس؟ … يجب أن ندرك أنّ أولادنا هم أبناء عصرهم وأبناء مجتمعهم ويتأثّرون بكل ما سبق، شئنا ذلك أم أبينا. يجب أن نفهمهم جيداً ونتفهّم كل ما يتعرضون له لنتمكّن من مساعدتهم. لا بد من وجودنا النفسي القريب منهم لنشاركهم أفراحهم وأتراحهم وضغوطاتهم. لا يجوز أبداً أن نستهزئ بما يعانونه في المجتمع، أو نسخّفه. التربية ليست مستحيلة لكنها حتما تتطلب قلباً قوياً ومحبة متفانية وعقلاً متفهماً وحواراً مستديماً وقرباً وإرشاداً. فلنستيقظ اليوم قبل الغد ونفتح عيوننا ونطلب وجه الرب ومعونته. “لأن الذي معنا أقوى من الذي علينا” كما يقول الكتاب المقدس. ولنتسلّح بوعد الرب دائماً كما جاء في الحكمة القديمة: “توكل على الرب بكل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد. في كل طرقك اعرفه وهو يقوّم سبلك”.