هناك من يؤجّل التّفكير بموته وبمصيره الأبديّ ليُحدَّد بعد رحيله عن الأرض. ومن هؤلاء من يظنّ أنّه يوم الدّينونة سيُقنِع الله ببراءته أو بعدم خطورة خطاياه فيُدخله إلى ملكوته. وهناك من يتّكل على صلوات أحبّائه له لينال الرّحمة على خطايا راعاها في حياته الأرضيّة ورحل بدون أن يعترف بها أو أن يطلب الغفران عليها. إنّ هذه الطُّرق لنوال الحياة الأبديّة، تُناقض .قواعد ثابتة في فكر الله المُعلَن في الكتاب المقدّس.
فالله يُعطي النّاس فرصة كاملة للتّوبة وللخلاص ولنوال الغفران “الآن” و”هنا” على هذه الضّفّة من الحياة. أمّا عندما ينطلقون من “هنا” إلى “هناك” في الضفّة الأخرى فهم يذهبون لتقديم حسابٍ عمّا فعلوه أو ما لم يفعلوه في حياتهم الأرضيّة (عب 9: 27؛ 2كو 5: 10). والله يدعو الناس “هنا” و”الآن” للخلاص ولنوال الغفران كاملاً ومباشرةً عند لحظة الإيمان وتسليم الحياة للمسيح الّذي “صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ” (عب 5: 9). وهكذا يترك الّذي اختبر الغفران هذه الدّنيا وهو متيقّن أنّه سيكون مع المسيح في الحياة الأبديّة. لخّص بولس يقين المؤمنين بالمسيح بالحياة الأبديّة بقوله: “فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ” (2كو 5: 8).
هل حقًّا نضمن المصير الأبديّ؟
ورُبّ معترضٍ يقول أنّ لا أحد يُمكنه أن يتأكّد من خلاص نفسه. ويروّج لهذا التّفكير بين جماعات دينيّة لا تؤمن باختبار الخلاص وتأكيده. أمّا العودة إلى الإنجيل المقدّس فتُرينا أنّ يسوع أسّس لعقيدة “يقين الخلاص والحياة الأبديّة هنا والآن” بتعليمه. وهكذا نصل للاستنتاج أنّه إمّا أن يكون الإنسان مُخلَّصًا قبل رحيله من هنا أو يموت هالكًا بخطاياه. فإن كان مُخلَّصًا تكون له الحياة الأبديّة، وإن رحل من هذه الأرض بدون الإيمان بالمسيح، لا يُمكنه الحصول على الخلاص والحياة الأبديّة، فيما بعد، ولا بأيّة طريقة أخرى يفترضها! فتعليم يسوع جليّ وجازم: “الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ” (يو 6: 36).
بينما كنت أبحث في حقيقة الخلاص والموت وضمان الحياة الأبديّة، وكنت شخصيًّا غير واثقٍ من خلاصي وخائفًا على مصيري الأبديّ، هداني تعليم يسوع الواضح والقويّ، وطمأنني وعده الصادق والمضمون: “لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ” (يو 6: 40). وشجّعني أيضًا يقين بولس الرّسول من خلاصه الأبديّ إذ آمن بالمسيح: “لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ” (2تي 1: 12). وهكذا تخلّيت عن كلّ فكرة لا تتوافق مع تعليم يسوع حول نوال الحياة الأبديّة وأقدمت على تسليم حياتي للمسيح، واختبرت الخلاص به، وتيّقنت من نوالي الحياة الأبديّة.
أزمَتَي الضّمير والإيمان وما يليهما
سيبقى حدث الموت يُنشئ في الإنسان خوفًا يقوده للتّفكير في أبديّته. والإنسان الحكيم لا يترك موضوع رحيله من هذه الدّنيا بدون أن يتأكّد من مصيره. ويستخدم الرّوح القدس حوادث موت أحبائنا ليخلق فينا “أزمة ضمير” يستيقظ ويُنخَسْ ولا يعود قادرًا أن يرتاح بسبب خطيّةٍ ما. ثم تعنف الأزمة ويتصاعد عذاب الضّمير حتّى يُتعِب صاحبه ويُسبّب الرّوح القدس أيضًا في الإنسان ما يُعرَف “بأزمة الإيمان”. فيبدأ البحث في موضوع الإيمان الحقيقيّ وفي ما إن كان قد عرفه وامتلكه. وتشتدّ هذه الأزمة الإيمانيّة في داخل الإنسان حتى يعترف بحاجته للمسيح فيطلب منه أن يرحمه ويغفر له (يو 16: 8-11؛ أع 2: 37؛ 16: 29-31؛ 22: 10).
ولا يرتاح الإنسان من أزمَتَي الضّمير والإيمان حتّى يستسلم مُسلِّمًا حياته للمسيح، وهنا يأتيه الرّوح القدس أيضًا ويُجري عجيبة الولادة الثانية في قلبه فيصير خليقة جديدة في المسيح، وعندئذٍ، فقط، يختبر الإنسان السّلام الدّاخليّ ويطمئنّ من نحو أبديّته (يو 20: 31؛ رو 5: 1؛ 1تس 5: 23). عاش بيتر والدو وهو تاجر غنيّ في مدينة ليون الفرنسيّة في القرن الحادي عشر. وكان راجعًا ذات يوم من العمل فتوقّف في الحانة ليحتسي مشروبًا مع صديقه حسب عادتهما. وبينما كانا يجلسان مقابل بعضهما بعضًا، انحنى ذلك الرّجل مقابله على الطّاولة، فظنّ بيتر والدو أّنه نام قليلًا. وعندما لم يستيقظ حاول مساعدته وإذا به يجده قد أسلم الروح. صعقه موت صديقه المفاجئ، ودفعه ليفتكر ماذا لو كان هو مكانه، إلى أين كان ليذهب بعد موته. قاده هذا الموت المباغت والمؤلم للتّوبة ولتسليم حياته للمسيح فاختبر نعمة الله المُخلّصة فاطمأنّت روحه من نحو أبديّته. استخدمه الله فيما بعد كأداة للبشارة والوعظ ولاقتياد كثيرين ليقين الخلاص.
ماذا عن أمنياتنا؟
بعد دراستي لموضوعَي الخلاص والحياة الأبديّة أقول: ليُنر الله من يتوهّم متكلًا على أمنياته وأوهامه وصلوات الآخرين لتغيير مصيره الأبديّ. فلا شيء يؤكّد أنّها ستُستجاب بعد موته، وتعليم يسوع جازم أنّها لا تُستجاب (لو 16: 25). فاستجابة الصّلاة لنوال الحياة الأبديّة هي لمن يطلبها هنا لنفسه على هذه الضفّة من الحياة. إذ من يموت بخطاياه يهلك إلى الأبد. ومن يخلص منها على الأرض ينعم بالحياة الأبديّة، وهذا ما يؤكّده يسوع: “لأَنَّ أُجْرَةَ الْخطيّة هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا”. (رو 6: 23).
أمّا من نال الخلاص فله يقين الحياة الأبديّة وعند موته يذهب ليكون في حضرة الله وبالتّالي، ليس محتاجًا بعد لمن يُصلّي له إذ هو في النّعيم. والّذي ذهب إلى أبديّة العذاب بدون المسيح، فلن تفيده صلواتنا. إذ يؤكّد الكتاب المقدّس أنّ كلّ إنسان مسؤول عن مصيره الأبديّ، وهو مُطالَب أن يأخذ خياره الواعي الحرّ “هنا” و”الآن” ليكون مع المسيح ويربح الحياة الأبديّة.
إنّ أبشع أنواع الرّهانات الواهية والخاسرة هي تلك التي تُفقِدنا حياتنا الأبديّة. الإنسان الحكيم المسؤول يعرف أنّه لا يستفيد شيئًا من الأوهام غير المضمونة، فلا يُغامر ولا يُقامر بروحه وبأبديّته. إذ يعرف أنه لا ينتفع شيئًا لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه (مت 16: 26). الإنسان الحكيم هو حكيم لنفسه، وإن أراد أن يضمن خلاصه وحياته الأبديّة يصرخ “الآن وهنا”، ولا يؤجّل: “إرحمني يا الله، واغفر خطاياي، وأذكرني في ملكوتك الأبديّ. آمين”.