“في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة. لأن الناس يكونون محبّين لأنفسهم، محبّين للمال متعظّمين مستكبرين مجدّفين غير طائعين لوالديهم غير شاكرين دنسين بلا حنو بلا رضى ثالبين عديمي النّزاهة شرسين… محبّين للّذّات دون محبّة لله. لهم صورة التّقوى لكنّهم مُنكرون قوّتها.” هل هذا مقطع من جريدة أو مجلة؟ لا. إنّها كلمات الكتاب المقدّس، وهي حتمًا تعبيرٌ صادق عن أيّامنا. فما من عصر تمرّد فيه الأولاد على أهاليهم وتخلّوا عنهم بأكثر من عصرنا هذا. كان الشاب، قبل خمسين عامًا فقط، يُقبِّل يد والده مهابةً واحترامًا ويأخذ موافقته في كلّ شيء، عملاً بوصية الله لنا جميعاً: “أكرم أباك وأمك.” فلنُعِدْ إذاً تسليط الضوء على هذه الوصيّة.
تغيّر النظرة إلى الأهل
لا شكّ في أنّ الاولاد يغيّرون، مع الأيام، نظرتهم إلى أهلهم. وتحمل كل مرحلة من مراحل حياتهم نظرة تختلف باختلاف عمرهم وخبرتهم وظروفهم. وهناك، طبعًا، أهل أساؤوا كثيرًا الى أولادهم فتخلّوا عنهم، أو لم يعترفوا بهم، أو اعتدوا عليهم بأنواع مختلفة من العنف الجسديّ أو النفسيّ أو المعنويّ، وهم لا يستحقّون التقدير. لكنّنا هنا نعالج الموضوع بشكلّ عام. فمعظم الأهل يحبّون أولادهم محبّة شديدة ولو أخطأوا أحيانًا بحقّهم بسبب ضعفهم كبشر. والكتاب المقدس واضح في وصيّته لكل ولد: “أكرم أباك وأمك. التي هي أول وصية بوعد”. إنّها خامس وصيّة في ترتيب الوصايا العشرة كرّس لها الربّ مكافأة خاصّة: “لكي تطول أيامكم على الأرض التي يعطيكم الرب الهكم”.
قرأتُ مقاربة جميلة على الانترنت أود مشاركتكم بها، وهي تعبّر عن نظرة الولد لأهله على مرّ السنين بطريقة نسبيّة ولكن معبّرة جدًّا:
في عمر 4 سنوات – أبي وأمي عظيمان وهما أفضل أهل في العالم.
في عمر 6 سنوات – أبي وأمي يعرفان كلّ شيء، هما الأذكى والأحكم.
في عمر 10 سنوات – أبي وأمي رائعان انّما أبي عصبي وكذلك أمي ولا يتمتعان بالمعرفة التي لأهل أصدقائي.
في عمر 12 سنة – أبي وأمي كانا رائعين معي وأنا صغير أمّا الآن… فقد تغيّرا.
في عمر 16 سنة – في الحقيقة أبي لا يتماشى مع عصره أبدًا. لا يواكب التكنولوجيا. ولا يعرف شيئًا على الاطلاق. أهلي لا يفهمونني!
في عمر 18 سنة – أضحى والدي مزعجًا حقًّا، أمّا أمي فرجعيّة مثل أمهات أيام زمان.
في عمر 20 سنة – أبي يعترض على كلّ شيء ولا يعجبه أيّ أمر أفعله، إنّه صعب جدًّا. لا أعرف كيف أرضيه. متى سيفهم العالم وطريقة سيره؟ بات أبي لا يطاق لا أستطيع أن احتمله، ترى كيف تحتمله أمي؟
في عمر 25 سنة – يبدو أنّ أهلي يعرفان بعض الشيء عن بعض الأمور وليس كما ظننت سابقًا.
في عمر 30 سنة – أشعر بالعجز. لا أعرف كيف أتعامل مع أولادي. لقد كنت أهاب أبي وأنا صغير…
في عمر 40 سنة – آه، لقد علّمني والداي الانضباط، وأتساءل كيف أجاد والداي التعامل مع الجيل الأصغر سنّاً…
في عمر 50 سنة – ليتني أستطيع أن أتناقش مع أبي أو أمي في هذا الموضوع أو ذاك. أحتاج إلى حكمتهما.
في عمر ال 60 سنة – ليتني أستطيع أن أعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
ما سبق صحيح إلى حدّ بعيد. فكلّما تقدّم الولد في العمر كلما ازداد تقديره لتربية أهله له.
كيف يكون الاكرام؟
الإكرام يبدأ في الصغر بالطاعة… “أيّها الأولاد أطيعوا والديكم في كلّ شيء”. فما النفع لو برع الولد في الدرس والرياضة والموسيقى ولكنّه غير مطيع.
ثم ان الإكرام يتطلّب، في مرحلة المراهقة، الطاعة مع الاحترام. ويميل المراهق دائمًا الى التمرّد طلبًا للاستقلال عن أهله وعن سلطتهم. فيُكثِر من الاجابات الجارحة بحقّهم. لكنّ الاكرام يتضمّن الاحترام قبل كلّ شيء: احترام لموقع الأهل ولدورهم وسلطتهم.
والاحترام يُعبَّر عنه بالكلام والخضوع العمليّ. أي ان يقف الأولاد، في الخفاء كما في العلن، على رأي أهلهم ويلتزمون بالضوابط التي يضعونها ويحدّدونها. وأيضًا بعدم الكلام عنهم بالسوء أمام الآخرين أو بالتذمّر منهم.
الطاعة والاحترام والخضوع كلّها أمور تصعب على الولد. ومن هنا دور الأهل في تربيته منذ الصغر وتعليمه على الطاعة. أما إذا خسر الأهل المعركة باكرًا فسيفلت زمام الأمر منهم وستصعب جدًّا استعادته لاحقًا.
أمّا عن يسوع مثالنا فمكتوب عنه “وكان خاضعًا لهما”، أي ليوسف ومريم، وهو الرّب الإله، خالق الأكوان. فهو كانسان “تعلّم الطّاعة”.
ولكن لطاعة للأهل حدودها في الكتاب المقدس. “أطيعوا والديكم في الرّب.” أيّ أنّ طاعة الرّب تبقى أولاً. “ينبغي أن يُطاع الله أكثر من النّاس” بمن فيهم الأهل. لذا فالطاعة هي بالأمور الصّالحة وليس العكس لا سمح الله. فلا طاعة مطلوبة في الكذب أو الغش أو الإلتواء…
أمّا في عمر الشباب فاحترام الأهل يعني التّهذيب وكذلك أخذ رأيهم والوقوف على خاطرهم. قد لا نفعل كلّ ما يريدونه – مثلاً في مجال العلم والتخصّص أو العمل – لكنّ النّقاش معهم ضرورة. كما ان الاحترام يعني أيضًا تقديرهم والشعور بالامتنان لتضحياتهم الكبيرة والكثيرة التي ربّونا عليها عبر السنين…
وماذا عن احترام الأهل بعد أن نتزوّج؟
وكيف ينبغي إكرام أهلنا مع تقدّمنا في العمر، أو بعد زواجنا؟
لا يجب أن ننسى أهلنا. صحيح أنّ المتزوّج يترك أهله ليلتصق بشريك الحياة ولكنّ هذا لا يعني تركهم بالمطلق لأن في هذا منتهى الأنانيّة والجحود. يتركهم جغرافيًّا؟ نعم. يستقلّ برأيه مع شريك الحياة؟ نعم. يعطي الأولويّة لعائلته الجديدة؟ حتمًا. لكن نكران الأهل غير مقبول لا إجتماعيًّا ولا إنسانيًّا ولا وجدانيًّا ولا إلهيًّا. فنكران الجميل بغيض جدًّا. لذا من الأفضل للعروسين أن يتّفقا على هذا الأمر بوضوح قبل الزّواج. والمقصود هنا احترام الأهل من الجانبين.
ويُتوَّج الاكرام أخيرًا في شيخوخة الأهل. فهم بعدما أعطوا كلّ شيء، وضعفت صحّتهم وقلّ مردودهم وهزلت إمكاناتهم سيحتاجون إلى دعمنا الصحيّ، والنفسيّ والعاطفيّ والمّادّي. هنا يأتي دورنا في مبادلتهم كلّ ما فعلوه لنا.
“أكرم أباك وأمك”. إيّانا ونسيان هذه الوصيّة. إنّها وصية الله لنا منذ القدم؛ الوصيّة الّتي أتت فورًا بعد وصايا الله لنا من نحو العبادة وعلاقتنا به. أو كما يقول المثل الشعبي المعروف: “يا رضى الله ورضى الوالدين”.