… ويأتينا النّبأ السّعيد “زوجتك حامِل”. ونتمتّع، كزوجين، بمراحل الحمْل كلّها شهرًا شهرًا وحركة حركة. هل هو صبيّ أو بنت؟ ماذا سنسمّيه أو نسمّيها؟ نشتري لوازم الطّفل ونحضّر الغرفة، ويأتي اليوم الموعود… يُولَد الطّفل، وتمرّ الأيّام والسّنون ونحن سعداء بمتابعة كلّ مراحل نموّه: طوله ووزنه وصحّته. هنا ابتسم، وهنا بدأ يمشي، وهنا نَبَت له أوّل سنّ، وهنا نطق أوّل كلمة. يكبر أمامنا ونحن فخورون به. نأخذ له الصّور ونعرضها بفخر على الأهل والأصدقاء. وبعد مرور سنوات عدّة، وقد أصبح الولد شابًّا أو صبيّة، نجد أنّه ليس كما تصوّرنا أو حلمنا. بل نكتشف أنّ شخصيّته تعاني نقصًا ما، وتصرّفاته تدلّ على تعقيدات كثيرة، وهناك تمرّد دفين على كلّ ما حاولنا أن نعلّمه إيّاه. فما الأمر؟ وأين حصل الخطأ؟ أين كان موطن الضّعف؟ لماذا… ولماذا؟ أسئلة عديدة وكثيرة.
حتميّة الأخطاء في تربية الأولاد
لا شك في أنّنا كلّنا نرتكب الأخطاء في تربيتنا. فنحن نتعلّم التّربية بأولادنا. ومَنْ مِنّا وُلِدَ مُعلّمًا! بالإضافة إلى ذلك، نحن بشر، وكلّ البشر يُخطئون وإن كانت هذه الأخطاء عن غير قصد أو عن حسن نيّة أو عن جهل. بعض هذه الأخطاء عابر وبسيط وقابل للتّصحيح، وبعضها الآخر كلفته غالية جدًّا على الأولاد وعلينا، وهي ما سوف نتطرّق إليه في هذه المقالة.
لكن، وقبل أن نغوص في هذه الأخطاء، لا بدّ من التّوقّف عند ناحية هي أنّ هذا الولد عندما يكبر سيصبح كائنًا مستقلاًّ مسؤولاً عن خياراته. وليس كلّ خيار خاطىء هو بسبب الأهل، ولا حتّى الظّروف. فبعض الأولاد يحبّ المغامرة وتجربة كلّ جديد من باب الإثارة، وبالتّالي يتّخذ خيارات صائبة أحيانًا وخاطئة جدًّا أو مُكلِفة، أحيانًا أخرى.
أمّا الهدف من هذه المقالة فهو أن ننتبه للأخطاء ونتجنّبها من دون الوقوع في شرك تدمير النّفس، وأن نبذل كلّ جهدنا لتربية أولادنا أفضل تربية، وأن نتّعظ ونغيّر حيث نستطيع…
مساوئ الاهمال
إنّ إحدى ميزات عصرنا هو عمل المرأة، ولساعات طويلة. فماذا نفعل بالولد؟ نتركه مع الوالدة أو الحماة، أو نضعه في دار الحضانة حيث يتعلّم لغة أجنبيّة وبعض الأشغال والأغاني. ويبقى هناك حتّى السّاعة الرّابعة أو الخامسة إلى أن تأخذه أمّه إلى المنزل. وهناك، تهتمّ الخادمة بما تبقّى من حاجاته من استحمام وعشاء وربّما تسلية، ثمّ يجلس لمشاهدة التّلفاز إلى أن يحين وقت النّوم. أمّا الأهل فـَ “تعبانين” بعد عناء النّهار الطّويل. وإن لم يكن هناك خادمة، فعلى الأمّ أن تهتمّ بأعمال البيت كالطّبخ والغسيل، وتنسى أنّ عليها صرف وقت كافٍ مع ولدها. وإذا حاول الولد الالتصاق بها زجرته، فهي “تعبانة”. وعندما يكبر يبقى البرنامج هو نفسه مع استبدال دور الحضانة بالمخيّم “colony”، فهو الحلّ الأمثل. وفي فترة بعد الظّهر يمضي الولد ما تبقّى من وقته ما بين التّلفاز والكمبيوتر. وأين الأهل هنا؟ “تعبانين”. هل من خطأ في هذه الأمور؟؟ طبعًا لا. أنا لست ضدّ أيّ منها بالمبدأ، إنّما ضدّ سوء استخدامها. إنّ التّعلّم والفنّ والرّياضة هي أمور سليمة وصحيّة، لكن لها حدودها، يجب ممارستها إنّما من دون إغفال الأهمّ. كمّ مرّة سمعت هذه الجملة الّتي آلمتني: “المهمّ أن نُبقي كلّ وقته ملآنًا حتّى لا يزعجنا”. “يا فلانة (الخادمة)، دوّري له التلفزيون حتّى يتسلّى ويحلّ عنّي”. لقد أصبح الولد مصدر إزعاج بعد أن كان حلمنا! وهو، إن كان يحاول الالتصاق بأمّه أو بوالده ويعذّبهم، فلكي يلفت انتباههم ويُعبِّر عن حاجته وشوقه إليهم. هكذا، يربى الولد اليوم، لديه كلّ وسائل التّرفيه، فيما ينقصه الأهمّ… فحاجة الولد إلى أهله تفوق أيّ حاجة أخرى.
يقول الرّبّ: “الحديد بالحديد يُحدَّد والإنسان يُحدِّد وجه صاحبه” (أمثال 27: 17). إنّ العلاقة القويّة والسّليمة بين الأهل والأولاد هي الّتي تحصّنهم وتعطيهم الثّقة بالنّفس والشّعور بالأمان والاستقرار النّفسيّ. فلنصرف الوقت مع أولادنا، والأهمّ أن ننتبه لمحتوى هذا الوقت ونوعيّته وليس فقط كميّته.
ضرر الإفراط في الحماية
حقًّا إنّ الولد عزيز جدًّا، وهذا الأمر لا يفهمه إلاّ مَن هو أب أو أم. فالأهل يخافون على أولادهم من الهواء والشّمس، من الضّعف والبدانة ومن البرد والحرّ. يخافون على نفسه الصّغيرة من الظّلم والتّأنيب والقسوة. يخافون عليه من النّاس ومن الفشل والسّقوط. فقد تشتكي الأمّ كلّ يومين لإدارة المدرسة عن تصرّف هذا التّلميذ أو تلك المعلّمة مع ولدها. إنّه أمر جيّد، لكن يجب أن تُقسّي الأمّ شخصيّة ولدها قليلاً ولا تجعله حسّاسًا“fragile” . إنّ إفراط الأهل في حماية الولد والدّفاع الدّائم عنه وعزله عن أيّ مشكلة سيوُلّد عنده ضعفًا في الشّخصيّة، ونظرة دونيّة للنفس والارتباك وعدم معرفة التّصرّف وأزمات نفسيّة أخرى، وربّما انهيارًا نفسيًّا عند مواجهة الواقع الفاسد وكثرة الظّلم في أيّامنا هذه. رَبّي الولد في عالم واقعيّ لا في عالم خياليّ. فهل يُعقل أن يعيش كلّ حياته من دون أن يخسر أو يُصدّ أو يُرفَض؟ وكيف سيتصرّف حينها؟ إنّ الأهمّ من الدّفاع عنه هو تعليمه كيف يحمي نفسه ويتقبّل الأمور ويتعامل معها بالطّرق السّليمة، ويستمرّ في الحياة من دون أن ينهار.
خطورة عدم الحوار والإرشاد
قلّما يغفل الأهل عن تلبية حاجات ولدهم الجسديّة الملموسة، من أكل ونوم ودرس وأمور أخرى… فيهتمّون بكلّ نواحيه الملموسة وينسون أنّه نفس وهو يحتاج إلى التّوجيه والإرشاد، إلى العاطفة والحنان، إلى الإجابة عن أسئلته، إلى الاستماع لمعاناته والصّعوبات الّتي يواجهها، إلى مساعدته على فهم نفسه وظروفه، وإلى حمايته من الانزلاق في مساوئ الحياة والعادات السيّئة. أمّا الأهمّ من هذا كلّه، فهو حاجته إلى زرع المبادىء الصّحيحة والأهداف النّبيلة والدّوافع النّقيّة خلف كلّ تصرّف. فعلى الرّغم من أنّ طاعة الأهل وتنفيذ أوامرهم هما أمران مهمّان، إنّما على الولد أن يعرف لماذا يُطلَب منه هذا التصرّف أو ذاك. فالتّربية هي تربية الذّات والقلب وصوغ الضّمير والأفكار. وكلّ هذا لا يتمّ من دون حوار أو شرح. فسواء أجاب الأهل الولد بـِ “نعم” أو “لا”، يجب شرح الأمر والدّوافع له بغضّ النّظر عمّا إذا قَبِل الأمر أم لم يقبل، ومن دون المساومة أو التّراجع عن القِيَم، فهذا سوف يساعده على معرفة ما سيقرّر وكيف يُخطّط في المستقبل. لأنّه “من القلب تخرج الأفكار الشّرّيرة: زنا قتل بُغض حَسَد…”، فالتّربية السّليمة هي الّتي تعمل على صياغة القلب والعقل. إنّ عدم التّواصل مع الولد وعدم الشرح له يؤدّي إلى ضياعه، وإلى إضعاف قدرته على التّمييز واتّخاذ قرارات صائبة. المشكلة هي أنّ الأهل “لا يجدون الوقت” و “يفتقرون الطّاقة والرّغبة” في التّواصل مع أولادهم!
سنتابع معًا في العدد القادم بنعمة الرّبّ …