قال فريدريك دوغلاس، الكاتب الذي كان عبدًا وتمّ تحريره: “من الأسهل أن نربّي أولادًا أقوياء من أن نعالج رجالاً محطّمين أو مكسورين”. وفي هذا القول الكثير من الحكمة. يكفي أن نعلم أن الجمعيات التي تعنى بكل أنواع الإصلاح الإجتماعي تصرف الكثير من الجهد والمال والوقت لإصلاح شخص واحد من دون أن تتمكن من ضمان النتيجة.
أساليب التربية
حدّد علم النفس أساليب التربية في أربعة أنواع:
1- التربية المتسلطة (authoritarian parenting) التي يسيطر فيها الأهل سيطرة تامة على الأولاد، ويطلبون الطاعة العمياء من دون أي نقاش، ويتباعدون في الوقت عينه عن أولادهم، تتميّز علاقتهم بهم بالجفاف من دون عواطف أو تعبير أو تواصل.
2- التربية الموثوقة (authoritative parenting)حيث يفرض الأهل هيبتهم ويتولّون القيادة في البيت. يضعون ضوابط محددة لكنهم قريبون من أولادهم عاطفيًّا ونفسيًّا، يمارسون الإرشاد والحوار والشرح بالإضافة الى التعبير عن عاطفتهم الشديدة.
3- التربية المتساهلة (permissive parenting)حيث يكنّ الأهل محبّة فائقة لأولادهم ولكنّهم يتميّزون بالرخاوة وبأكثر مما يلزم من التساهل، فتغيب الحدود والضوابط ومعها أي سلطة بالمطلق. هناك في هذا النوع من التربية الكثير من الحريّة والقليل من الإرشاد والنظام.
4- التربية اللامبالية (uninvolved parenting) وتحصل عندما يكون الأهل غير معنيين بتاتًا بأي ما يحصل مع أولادهم؛ وهي حالة يقبع فيها كلّ واحد في عالمه. ويحصل أحيانًا نتيجة مرض عضال أو مرض نفسي أو انه مجرد إهمال وأنانية…
نعتقد جميعنا أن أزمات الأولاد ومشاكلهم تنتج فقط عن الأهل المتسلطين أو العنيفين والشرسين أو المهملين الأنانيّين غير المبالين. ومن المحتّم أن ينتج عن نوعي التربية الأول (التربية المتسلطة)، والرابع (التربية اللامبالية)، أولادٌ مأسويّون. وهذا بديهي لأن الولد لا يربى من دون عاطفة وحنان واهتمام. وبالرغم من انّنا قد نُجمع الآن على القول أن الأسلوب الثاني، أي التربية الموثوقة المتوازنة، هو الأفضل، فمن المؤسف أن الشريحة الأكبر من الناس تتبنّى النوع الثالث (التربية المتساهلة) وهم لا يدرون أن سبب الكثير من الأزمات في حياة الشباب اليوم يعود الى ما تلقّوه من تربية رخوة. إنها مشكلة العصر.
تطالعنا وسائل الإعلام، في كلّ اسبوع، بحملات جديدة، تُخصّص إمّا لمساندة الطفولة وحمايتها من العنف الأسري ومن الإهمال، وإما للعلم ولذوي الحاجات الخاصة وللصحة ومحاربة الأمراض وللتوعية ولمكافحة المخدرات، الخ. لكن ماذا عن التربية المتساهلة وخطرها؟
يقولون: “مش عم نقدر على ابننا أو ابنتنا!” وماذا تنتظرون أيها الأهل؟ إن عجزتم عن فرض هيبتكم على ولدكم وهو في عمر السنتين أو الأربع، فهل تتوقّعون ان تفرضوها عليه في سن المراهقة؟! ام أنك تعللون أنفسكم بالآمال متّكلين على الزمن والأيام وعلى نضج الأولاد عندما يكبرون؟!
ما هي التربية المتساهلة؟
في التربية المتساهلة يحب الأهل أولادهم كثيراً، لكنهم يتراخون معهم، فتنتفي الحدود والضوابط فيختفي بالمطلق أي أثر للسلطة. يمنحون أولادهم الكثير من الحريّة والقليل من الإرشاد والنظام. يتركون للولد أن يقرر ما يريد وأن يعيش على هواه. إنها نوع التربية التي يحصل فيها الاولاد دوماً على كافة طلباتهم، مهما كانت، بسرعة ووفرة وسهولة. يغدق الأهل بالهدايا على أولادهم ليشتروا بها رضاهم ومحبتهم وسرورهم. فلا يعود هناك من داعٍ لإتعاب أنفسهم وتحميلها المسؤوليات. ويقوم الأهل بالأمور التي يتوجب على أولادهم القيام بها بأنفسهم. يكسرون كلمتهم امام إلحاح الولد وبكائه. ولا يتصرّف الأهل هنا على أساس أنّهم أصحاب السلطة في البيت بل بوصفهم اصدقاء لأولادهم وحسب. لا يحسمون الأمور ويتركون للولد أن يجرّب بنفسه ويتعلّم. يقبلون تصرفات أولادهم مهما كانت ولا يطالبونهم بأي التزامات أو أدبيات معينة.
لماذا يتساهل الأهل في تربية أولادهم؟
السبب الأول هو المحبة، فلا يريد الأهل إغضاب أولادهم أو قهرهم “كما يظنون”. لا يتحملون رؤية الولد وهو يبكي. يخافون من أن يكرههم أولادهم. ويبغون رضاهم بأي ثمن وهو مستعدون لأي ما من شأنه أن يكسبهم محبّتهم.
كما إن نمط الحياة المعاصرة المليء بالضغط والتعب هو من الاسباب الأخرى. فالتربية تتطلب مجهودًا ومثابرة. ومعظم الأهل في أيامنا هذه يعملون خارج المنزل لساعات طويلة مضنية ويعودون إليه في نهاية النهار متعبين، لا حول لهم ولا قوّة على التربية، فلا يجادلون أو يشرحون، بل يكتفون بقول “نعم” اختصارًا للوقت.
وربما راود آخرين شعورٌ خاص بالذنب تجاه الأولاد إما بسبب طلاق الأهل، أو لأنهم يتركونهم لساعات طويلة.
وقد يتساهلون بسبب ما يشعرون به في داخلهم من شفقة على الأولاد الذين تيتّموا جرّاْ وفاة أحد الوالدين.
أو قد يتساهلون في حالة الولد الوحيد الذي لم يُرزقوا بغيره، أو إذا كان وحيدًا في جنسه بين إخوته. فيدلّلونه/ها في شكل غير منطقي. أو يأتي تصرّفهم أحياناً كردّة فعل على تعرّضهم للتعنيف في صغرهم ممّا قد يحملهم على فعل العكس. أو إنهم ربما يريدون أن يعوّضوا لأولادهم ما عانوا منه كأهل في طفولتهم من حرمان قاسٍ وفقر مدقع. أو أنهم يستوحون في أسلوب تربيتهم الفلسفات المعاصرة في التربية الحديثة. وهي الفلسفات التي انتشرت في الغرب وأثبتت فشلها.
تأثير التربية المتساهلة على الأطفال
ثبت على مرّ الأجيال ضرر هذه التربية، لأنها أنتجت أولادًا غير مسؤولين أو مبالين، تعوّدوا الاتكال على أهلهم في كل شيء، متطلّبون لا يكتفون أبداً بما لديهم، أنانيون يريدون كل شيء لنفوسهم، غير شكورين، لا يعطون قيمة للأشياء لكثرة وسهولة حصولهم على كل ما طلبوه ولأنه لم يُرفض لهم طلب أبداً. ويتصف مثل هؤلاء الاولاد بعدم تقديرهم التضحيات، وبأنهم غير طائعين، متمردون، لا يضبطهم أي قانون، انفعاليّون لا يمكنهم السيطرة على طبائعهم وغضبهم، ولا يعرفون حدودهم في الحياة.
كما انهم كسولون ولا يجتهدون في شيء. يهدرون وقتهم أكثر من سواهم ويقضون ساعات وساعات منه على التلفزيون أو عل الكمبيوتر. ضعفاء في نفوسهم لأنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الفشل، ويتقاعسون أمام المشاكل والصّعاب. وهم أكثر عرضة لليأس والتوتّر، لا قدرة لهم على المواجهة والتحمّل، يائسون يعيشون بفراغ ويفتقرون إلى الطموح.
هؤلاء الأولاد هم عرضة للآفات الاجتماعية كالمخدّرات والممنوعات وحتى للانتحار لأنهم في حالة تفتيشٍ دائم عن معنىً للحياة.
انهم، باختصار، أولاد لا يسعدون في الحياة.
ما العمل إذا؟
يكمن الحلّ الوحيد في ممارسة دورنا وسلطتنا كأهل. نعم سلطتنا. وهناك فرق شاسع بين سلطة الأهل وتسلّطهم. لا تدعوا أحدا يغشّكم. فعلى الأهل أن يكونوا أهلا وليس مجرد أصدقاء. فالولد يرتاح إلى السلطة والحدود لأنهما يُشعرانه بالحماية والأمان. لا يجوز أن نتخلّى عن هيبتنا وموقعنا. ففي وسع الاولاد إيجاد الاصدقاء في كلّ مكان لكنكم أنتم أهلهم الوحيدون. لا تستخفوا بهذه الناحية ولا تقللوا من أهميتها. السلطة مهمة جدًّا في الدولة والوطن، في العمل والمدرسة وفي البيت. نعم للسلطة لكن لا للتسلط.
يشكّل الله بنفسه أهم نموذج في التربية. فهو يجمع بين المحبة والعدالة، المحبة والحزم، المحبة والمبادىء، المحبة والقانون، الرحمة والعقاب، المحبة والسلطة، المحبة والهيبة. وتذكروا قول الرّب لنا “الرخاوة لا تُمسك صيْداً”.