لن أغفر لنفسي إذ تسبّبت بمقتل والدي…
رنى فتاةٌ مراهقةٌ خجولة، قابلتها للمرّة الأولى في عيادة طبيب الأسنان. كان يبدو عليها الضّجر. فبادرْتُ إلى التعرّف إليها لأخفّف من وطأة الانتظار. وبينما كنت أتبادل معها أطراف الحديث سألتها: “هل تقرأين الكتاب المقدّس؟” أجابت “لا أبدًا، لكنّي أعرف جيّداً قصصًا كثيرةً من الإنجيل سمعتها في طفولتي في المدرسة.” فأكملْتُ الحوار سائلةً “ما أقرب قصّة من هذه القصص إلى قلبِك؟” أجابتني بدون تردد “قصّة الابن الضّالّ”. فسألتها:” هل تظنّين أنّك الابن الضّالّ؟” فقالت “طبعًا” فأكملْتُ: “إعترافٌ جميلٌ وهل عدْتِ إلى الله؟” فأجابت بجديّة وبارتباك: “لا أظنّ أنّه يقبَلُني”. فسألْتُها بتعجّب: “لماذا تظنّين هكذا؟” فأجابت، بعد أن بدا الحزن الشّديد على وجهها: “ارتكبت خطيّة لن تغتفر فأنا تسبّبت بمقتل والدي”.
كانت هذه طفلةً في الرّابعة من عمرها حين فقدت والدها إلى الأبد. في صباح ذلك اليوم المشؤوم ألحّت رنى على والدها ليصطحبَها إلى السّوق لشراء حذاءٍ جديد، غير عالمةٍ أنّ رصاصةً طائشةً ستصيب والدها في الطّريق وتودي بحياته. عاشت رنى في عقدة الذّنب تلك كلّ أيّام حياتها. تسمع صوت أمّها يتردّد في أذنيها كلّ ليلة “أنتِ السّبب في موت أبيكِ”. ممّا سبّب لها الأرق والشّعور العنيف بالخزي والنّدم والحرج والخجل من الذّات.
ما هو الشّعور بالذّنب وما الفرق بينه وبين تأنيب الضّمير؟
يفسّر علماء النّفس أنّ الشعور بالذّنب هو جزءٌ رئيسيٌّ من التّكوين النّفسيّ، يبدأ منذ عمر ثلاث أو خمس سنوات. وأحد أهمّ مصادره هو طريقة التّربية التي يتّبعها الأب والأمّ. بالإضافة إلى معتقدات المجتمع الذي ينشأ فيه الفرد وموروثاته. وبقدر ما يحصّل الطّفل من حبّ وحنانٍ ورعايةٍ وتفهّمٍ وتقبّل، بقدر ما يستطيع أن يروّض هذا الشّعور عندما ينتابه. وبالإضافة إلى التّربية هناك عوامل أخرى تزيد الشّعور بالذنب منها الاستعداد الوراثيّ والتّعبير الجينيّ. وقد يأتي مصاحبًا لأمراض أخرى مثل الاكتئاب والوسواس القهريّ والفصام. وأصحاب “النفس اللوّامة” هم، عادةً، عرضةٌ للاستغلال وأيضًا للأفكار المتطرّفة.
أمّا الضمير، بحسب الكتاب المقدّس، فهو صوت الحقّ الدّاخليّ الّذي يدعو الإنسان إلى السّير على طريق الصّواب والامتناع عن الخطأ. وهو الادراك والتّمييز بين الخير والشّر. إذاً، هو اقتناع داخليّ وحسّ بالمسؤوليّة قد يصطحبه شعورٌ بالرّضى أو عدم الرّضى بحسب ما تتّفق أفعالنا وأفكارنا وكلماتنا مع نظام القيم الخاصّ بنا، المبنيّ على فهمنا للحقّ المعلَن في الكتاب المقدّس.
فحص الرسول بولس كلماته وأفعاله ووجد أنّها متّفقةٌ مع مبادئه وقيمه التي كانت مؤسَّسةً على شريعة الله. فكان ضميره يؤكّد نزاهة قلبه. كما اعتبر بولس بأنّ الضّمير هو شاهد للإنسان، أي أنّه بوصلة، وهو خادم نظام قيم الفرد. فإن كان نظام القيم ضعيفًا أو غيرَ ناضج، ينتج ضميرٌ ضعيف. في حين أنّ نظام القيم النّاضج المكتمل ينتج إحساسًا قويًّا بالصّواب والخطأ. ويحثّنا الرّسول بولس على التدرّب على التّمييز بين الخطأ والصّواب بحسب الإنجيل. ويشجّعنا على اختيار ما يرضي الله.
يحكي بولس عن أشخاص تقسّت ضمائرهم ولم يعد ينصت أصحابها إلى وخزها. فيتمادون بفعل الخطيّة ويخدعون نفوسهم بأن كل شيء على ما يرام.
كيف تتخلّص من الشّعور بالذّنب من دون أن تفقد صوت الضّمير؟
هناك بعض الأشياء الّتي يجب أن تعرفها كي تتخلّص من الشّعور بالذّنب. أوّلها، أنّ لوم النفس نوعان، نوع صحّيّ مفيد ومطلوب، ونوعٌ آخر مَرَضيٌّ مؤذٍ ومدمّر. يتلخّص الشّعور الصّحيّ بأنّه يأتي بعد الإتيان بالخطأ. فتكتشف أنّك أخطأت، تُراجع نفسك وتتعلّم من الخطأ ولا تكرّره ثم تصحّحه بما يناسب. أمّا النوع المرَضيّ من الشّعور بالذّنب فهو أن تُنَصِّبَ لذاتك محكمةً قاسيةً فتصبح أسيرًا يوميًّا لحالة الغضب والملامة واحتقار الذّات، لذا:
- اِقبل ضعفَك فنحن بشرٌ والضّعف جزءٌ من بشريّتنا. وتقبَّل الفشل.
- سامح نفسك بعد أن تطلب الغفران من الله وتعلّم من الخطأ ثم اِبدأ بدايةً جديدة.
- لا تسلّم مفتاح قبولك لذاتك لأيّ شخصٍ وتحت أيّ دعوى. ولا تنتظر القبول والرّضا إلّا من الله.
- لا تسمح لأحد بأن يتلاعب بعواطفك لفرض الخضوع له أو لرغباته. وإلّا جعلك تشعر بالذّنب.
- تذكّر أنّ الشّعور بالذّنب يكون في أوقاتٍ كثيرةٍ عكس الشّعور بالمسؤوليّة. فيكبّلك ويمنعك من التّصرّف السّليم.
- لا تحمّل نفسك فوق طاقتها ولا تدّعي البطولة، ركّز على ما أنت قادرٌ على القيام به وسلّم ما هو فوق طاقتك إلى الله ليرسل لك المعونة من لَدنه.
- من المفيد أن تعترف بزلّاتك لصديقٍ خلوقٍ مُحِبّ تثق به، وتذكّرْ أنّ الغفران يمنحه الله وليس البشر.
- إن كنت تعاني من مشاكل نفسيّة مصاحبة للشّعور بالذّنب كالاكتئاب، من الضّروريّ استشارة طبيبٍ نفسيّ. صلِّ واعترف إلى الله الّذي يكثّر الغفران فتختبر الصّفاء والسّلام الدّاخليّ الّذي يمنحه المسيح لكلّ تائب.
هذا ما اختبرَتْه رنى بعد أن أنار المسيح قلبها، فأدركت كم هي محبوبةٌ ومقبولةٌ من الله، الّذي أنعم عليها بالسّلام وتحرّرت من عقدة الذّنب، وعلمت أنّها لن تكون وحيدةً وأسيرة أفكارها في رحلة هذه الحياة فلها أبٌ حنونٌ يُعينُها في ضعفاتها ويرشدها إلى طريق الصّواب.