إنّ حق الدفاع عن النفس كان مُشرّعًا منذ قديم الأيام وقد عُدَّ حقًّا طبيعيًا للإنسان. إلّا أن بعض المسيحيّين يرفضون الدفاع عن النفس بأيّ شكل من الأشكال مفضّلين الاستسلام لمشيئة الله الكاملة، حتى وإن كانت الموت عن يد قاتل شرّير، أو لص مسلّح، أو مغتصب دمويّ. ويرى البعض أنّ يسوع حذّر من الانتقام الشخصيّ للتعويض عن أيّ إساءة معنويّة أو أذيّة جسديّة أو ماديّة قد تصيبنا. “لا تُقاوموا الشّرّ، بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضًا” (مت 5: 39). إن اللطمة المذكورة في كلام يسوع هذا هي الَّتي تأتي من قفا يد المعتدي للإمعان في إذلال كرامة المعتدى عليه. كانت هذه تُعدُّ ارتكابًا مُشينًا يُعاقَب عليه في المجتمع اليهوديّ.
ويقترح يسوع الانضباط الذاتي وعدم الانجرار إلى الخصام ولا الانتقام، “ومن أرادَ أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخّرك ميلًا واحدًا فاذهب معه اثنين.” (مت 5: 40-41). لم يكن قصد يسوع أن يخلق من جماعته أناسًا خانعين بل مُميّزون قادرون على أن يتعالوا على الإساءة الشخصيَّة، وقادرون أن يفرضوا هم قواعد اشتباك مختلفة في المجتمع، عبر مبادلة الإساءة والإهانة بالاحترام والمحبَّة. إن قاعدة التعامل الَّتي أرادها يسوع بين الناس هي: “فكلّ ما تُريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم” (مت 7: 12؛ لو 6: 29-31).
إلّا إن التدقيق في التعليم الإلهيّ لا يُرينا أن يسوع نقض حقّ الدفاع عن النفس أو منع اقتناء سيف أو عصا للحماية الشخصيَّة من الحيوانات الضارية أو اللصوص وقاطعي الطريق (مر 6: 8؛ لو 22: 36). وهو عرف بسيف بطرس طوال وجوده معه. ففي وقت منع يسوع الانتقام الشخصيّ، لم يمانع الدفاع عن النفس أو عن الَّذين هم في عهدتنا أو عن الممتلكات (لو 11: 21).
ولو تعمّقنا أكثر في درس التعليم الرسوليّ عن واجب المسيحي تجاه أهل بيته (الأهل وأفراد العائلة) لوجدنا أنّه لشرّ عظيم عدم الدفاع عنهم عندما يتعرّضون للخطر (1تي 5: 8). فالمسيحيّ ليس مطالبًا بأن يسكت عن الاعتداءات الجسديّة في حقّ نفسه أو عائلته ليُبرهن أصالة إيمانه. لكن المطلوب منه هو أن لا يحمل نفسه على ارتكاب الإساءات أو الثأر والانتقام (لا 19: 18؛ أم 26: 21؛ 24: 29)، ولكن يجوز له أن يلتجئ إلى السلطات القضائيّة لتحصيل حقّه أو لمقاضاة المعتدي ولوضع حدّ لتماديه حماية لغيره من الاعتداءات عينها. نرى هذا في قول بولس: “أعطوا مكانًا للغضب”. إنه “غضب” القضاة والحكّام الَّذين يحكمون بحسب القانون. المسيحيّ إنسان مسالم ولا يفتعل الشّرّ، وهو إنسان حكيم يتجنّب الشّرّ، لكنّه ليس بإنسان عديم المسؤوليَّة تجاه روحه أو أرواح أطفاله وزوجته وأحبائه أو حتّى جيرانه. ولا أظن أن يسوع كان يُعلّم تلاميذه “السلاميّة المطلقة” إلى حد عدم حماية الأرواح أو حتّى الممتلكات. فهذه قد تُعرّض المجتمع للفوضى وللشرّ المطلق.
من هنا وجد علماء الأخلاق واللَّاهوت والفقه القانونيّ أن حقّ الدفاع عن النفس هو حقّ طبيعيّ يوازي الحقّ في الحياة. فكما أن الإنسان لا يحقّ له أن ينتحر أو أن يُسيء إلى جسده، لا يقدر أن يُجيّر لغيره هذا الحقّ ليقتله أو ليضربه أو ليؤذيه. إن حقّ الإنسان في الحياة يتضمّن حقّه في الحفاظ عليها والدفاع عنها. هذا حقّ طبيعيّ مقدَّس لم يناقشه يسوع لأنّه سلّم به. ومراجعة تعليم يسوع في الموعظة على الجبل عن عدم مقاومة الشّرّ بالشرّ، لا يُرينا أنّه يتضمّن عدم مقاومة جرائم القتل والاغتصاب وما شابه. وإذ إنَّ اللجوء إلى القضاء أو الشرطة لردع المعتدي قد لا يكون متوافرًا عند ارتكاب الاعتداء أو محاولة ارتكاب الجريمة، يكون من واجب الإنسان أن يُدافع عن نفسه أو عن الَّذين هم في عهدته، إلى حين تمكّنه من الاتصال بالسُّلطات لتقوم بواجبها.