واعظ ومُصلِح إيطاليّ، وُلِد في مدينة “فيرّارا” في إيطاليا في 21 أيلول عام 1452. بدأ في دراسة الطّبّ وحصّل تعليمًا جيّدًا، إلى أن سمِع عظة عن التّوبة والخلاص من راهب أغوسطينيّ، فتجاوب معها وتغيّرت حياته وكان ذلك في العام 1474. دفعه اهتمامه بالدّين وسخطه الشّديد على الفساد المستشري في الدّولة والكنيسة إلى دراسة اللاّهوت والانتساب إلى الرّهبنة “الدّومينيكانيّة” في “بولونيا” في العام 1475. وعلى الرّغم من النّهضة الأوروبيّة الحاصلة في ذلك الوقت، فقد رأى “سافونارولا” أنّ الانحطاط والفساد الأخلاقيّين قد طغيا على جمال الفنّ وعظمته في مدينة “فلورنسه”. وفي العام 1482 عُيّن مُحاضِرًا في دير “سان ماركو” في المدينة. خلال هذه الفترة، كتب “سافونارولا” الشّعر والفلسفة والدّراسات الكتابيّة. وقد كانت كتاباته جريئة تُهاجم انحطاط الأخلاق لدى الشّعب والحكّام والإكليروس.
في العام 1491، صار رئيسًا لدير القدّيس “مرقس”، الّذي كانت تسيطر عليه أسرة “مديتشي” الحاكمة. لذلك، كان لزامًا على “سافونارولا” أن يُعلن ولاءه للحاكم، إلاّ أنّه رفض الأمر قائلاً إنّه قد انتُخِب من الله وليس من أسرة “مديتشي”. وقد نجح في جعل ديره مركزًا للدّراسات الشّرقيّة ومُلتقًى لأهمّ باحثي اللاّهوت والفلسفة “الإنسانيّة” في “فلورنسه”، وزاد عدد الرّهبان في أيّامه من 50 إلى 238 راهبًا.
تبنّى “سافونارولا” خطابًا رؤيويًّا في وعظه، وبعد دراسته لسفر رؤيا يوحنا اللاّهوتيّ، وعظ عن اقتراب نهاية العالم وتنبّأ عن ضربات إلهيّة تصيب الكنيسة والمجتمع والملك بسبب فسادهم، مدّعيًا حصوله على هذه الرّؤى الخاصّة من الله. وفي إحدى عظاته، تكلّم “سافونارولا” على رؤيته يد الله وقد ظهرت له في السّماء حاملة سيفًا مُلتهبًا، دُوِّنت عليه الكلمات التّالية: “انظُروا سيف الله النّازل فجأة وبسرعة على الأرض”. وقد تنبّأ “سافونارولا” أنّ ملك فرنسا “شارلز الثّامن” سوف يُهاجم “فلورنسه” كفيضان جارف، وأنّ أملهم الوحيد يكون باستسلامهم للفرنسيّين. وبعد إتمام هذه النّبوّة، أعلن “سافونارولا” أنّ الله يُفضّل “فلورنسه” على “روما”، الأمر الّذي زاد الطّين بلّة بينه وبين الكنيسة في “روما”!
كما تنبّأ عن الموت الوشيك للأمير “لورنزو دو مديتشي” والبابا وملك “نابولي”. وخلال بضعة أشهر، مرض الأمير “لورنزو” مرضًا جعله طريح الفراش. وبسبب حزنه وخوفه من خطاياه، دعا الأمير “سافونارولا” ليحلّه منها. فاشترط عليه “سافونارولا” ثلاثة أمور: 1) أن يتوب عن خطاياه ويطلب رحمة الله؛ 2) أن يتخلّى عن كلّ ثروته الّتي جمعها بطرق ملتوية؛ 3) أن يُعيد الحكم في “فلورنسه” إلى الشّعب. وافق الأمير على الشّرطين الأوّلين لكن على مضض، إلاّ أنّه رفض الشّرط الثّالث. فرفض “سافونارولا” حلّه من خطاياه. وبعد فترة قصيرة من موت الأمير “لورنزو”، توفّي البابا “إنّوسِنت الثّامن”. كما تنبّأ أنّ وبأ الموت الأسود (حمّى الطّاعون) سوف يضرب المدينة مجدّدًا، وهذا ما حصل في صيف 1497 حيث مات المئات بسبب المرض. وقد اشتهر “سافونارولا”، خلال هذه الفترة، بمساعدته النّاس والرّهبان المصابين، وبوعظه أنّ الله لن يرفع الضّربة عن المدينة إلاّ عند تجديد الكنيسة والمجتمع وتوبتهما. لقد آمن “سافونارولا” بأنّ الإصلاح يأتي بوساطة الشّبيبة فقط، إذ كان قد فقد الأمل بإصلاح كبار الكنيسة وقادتها.
سياسيًّا، لم يكن “سافونارولا” أقلّ تعصّبًا. فقد دعا إلى إصلاح أخلاقيّ واجتماعيّ راديكاليّ في مدينة “فلورنسه”، حيث أسّس ما يشبه “الجمهوريّة الديمقراطيّة الثيوقراطيّة” بعد وفاة حاكمها عام 1492. وكان هو السّبب في وضع دستور جديد للمدينة حيث صارت “فلورنسه” دولة مسيحيّة حاكمها الله، وقانونها مبنيّ على الإنجيل، وحكّامها وقضاتها ينتخبهم الشّعب الّذي هو مصدر السّلطات ويكونون مسؤولين أمام الله مباشرة من دون الخضوع لرجال الكنيسة. وممَا قاله: “الله وحده يكون ملِكُكِ يا فلورنسه، كما كان ملِكًا لإسرائيل بمقتضى العهد القديم”. حاول “سافونارولا” أن يخلق ثقافة مسيحيّة تعتمد بشكل أساس على الكتاب المقدّس وعلى الأخلاق والقِيَم المسيحيّة، في مواجهة الثّقافة الوثنيّة للفلسفة “الإنسانيّة”. واستطاع أن يحوّل عيدًا سنويًّا إلى احتفال كبير للإصلاح، فجاء النّاس، الّذين تكرّسوا للرّبّ بسبب وعظه، بأمتعتهم الدّنيويّة (الرّسومات الإباحيّة، وكتب الشّعر والمسرحيّات التي تُروّج المجون والفساد، وأوراق اللّعب والنّرد والقمار، والمصوغات، إلخ…) إلى الميدان العامّ، وأشعلوا فيها النّار على أنغام التّرانيم والتّسابيح الدّينيّة. كما حرّم “سافونارولا” الشّذوذ الجنسيّ الّذي كان شائعًا في أيّامه، وحكم على الشّاذّين بالموت. واستطاع أيضًا أن يجعل من الأولاد المشرّدين في الشّوارع جيشًا مقدّسًا، إذ صاروا يجوبون شوارع المدينة وهم يرنّمون ترانيم وأغاني روحيّة ويجمعون المال للفقراء. لقد ربح “سافونارولا”، بسبب نبؤاته وتطرّفه المقدّس، دعم كثيرين من المتحمّسين لقضيّته وحتّى من معارضيه.
في العام 1495 استُدعي “سافونارولا” إلى روما، الّتي حاولت إرجاع دير “سان ماركو” إلى سلطانها، ومُنِع من الوعظ حتّى يتمّ البتّ في قضيّته. إلاّ أنّ “سافونارولا”، وبعد صمت لوقت قصير، عاد إلى الوعظ لأنّه لا يمكنه أن يُطيع أيّ أمر يتعارض مع وصايا الله، قائلاً: “إذا كان أسقف الكنيسة يأمر بما هو ضدّ حياة التّقوى والمحبّة، فإنّه لا يفقد طاعة النّاس وحسب، بل يستحقّ أن يكون ‘أناثيما’”.
على الرّغم من رميه بالحرم في 13 أيّار عام 1497، استمرّ “سافونارولا” في الوعظ وفي الدّفاع عن شرعيّة توقّعاته، إذ اعتبر أنّ هذا الحرم باطل. وفي العام نفسه، نشر دفاعه المؤثّر عن عقيدة الإيمان القويم الرّأي “”Triumphus Crucis de fidei verite. وقد زادت حدّة التّوتّر بين “سافونارولا” والسّلطات الكنسيّة، ووصلت إلى ذروتها في العام 1498، عندما شكّك في مسيحيّة “البابا ألكسندر السّادس” (رودريغو بورجيا المشهور بفسقه وفساده ومحاباته لأقاربه) وفي شرعيّته، ما أدّى إلى قيام الرّأي العامّ في المدينة ضدّه وتخلّي السّلطات عنه. وتمّ اعتقاله وإدانته بالانشقاق والهرطقة ومحاولته عزْل “البابا”. وبعد تعذيب قاسٍ لنيل اعترافاته بالقوّة، وبعد محاكمته صُوَريًّا أمام قضاة مدنيّين، أُعدم “سافونارولا” مع راهبين آخرين حيث علّقوا على صلبان وأُحرقوا في السّاحة ذاتها الّتي سبق لهم وأحرقوا فيها المحرّمات، وكان ذلك في 23 أيّار 1498. في مواجهته الموت، صلّى “سافونارولا” قائلاً: “أيّها الرّبّ، لقد محوت إثمي آلاف المرّات. أنا لا أتّكل على تبريري، بل على رحمتك”. وبعد قتل “سافونارولا” عادت عائلة “مديتشي” لتُسيطر على “فلورنسه” وعادت خطايا المدينة إلى شوارعها الّتي ملأ الشبّان حاناتها وشوارعها بالرّقص والعربدة.
عُرِف “سافونارولا” بمواعظه الأخلاقيّة الناريّة وبمناداته بتجديد الكنيسة وحياة الأفراد بموجب الأسفار المقدّسة. وممّا قاله: “إنّ الأسفار المقدّسة هي مُرشدي الوحيد عندما أعظ عن تجديد الكنيسة”. وقال إنّ الله وحده يغفر خطايا الإنسان، ويبرّره برحمته. لا يستطيع الإنسان أن يخلّص نفسه بقوّته وبأعماله. لقد هزّ “سافونارولا” النّاس في وعظه من سفر الرّؤيا، مُحذّرًا إيّاهم من الغضب الآتي. وكانت دموع الناس تُذرف عند سماعهم “سافونارولا” يعظ عن رحمة الله المخلِّصَة.
حاول بعضهم محو كلّ تأثير له بعد موته، وبعضهم الآخر اعتبره شهيدًا للمسيحيّة. ولا يزال النّقاش دائرًا إلى الآن في ما إذا كان “سافونارولا” نبيًّا أو قدّيسًا أو أنّه كان ضالاًّ ومشاغبًا ومتعصّبًا متطرّفًا، ولكنّه، ومن دون شكّ، ليس هرطوقيًّا في ما يختصّ بقضايا الإيمان الأساسيّة، بل كان مسيحيًّا مخلصًا وعظيمًا على الرّغم من نهجه المتطرّف ضدّ الفساد ووعظه المتشدّد الّذي لم يقبل أيّ مساومة مع قادة مجتمعه.