السرّ كناية عن حفظ أمرٍ في الفكر، فلا يُباح مهما كانت الظّروف. وبمقدار حفظ الأسرار، يَقيس الصّديق وفاء صديقه وأمانته.
وما أصعب كتمان الخبر! فالإنسان بطبعه يحبّ سماع القصص وتلاوتها . كما يشعر أنّه في سباقٍ دائمٍ لاستقصاء كلّ جديد كي يفوز باعتلاء منصب أوّل مَن يعرف الخبر.
وعلى سبيل الفكاهة، أستذكر ما حصل مع أمّ سعيد وأمّ جميل. فلقد أتت أمّ سعيد لزيارة أمّ جميل كي تخبرها بمدى سرورها إذ علمت بأنّ جارتها هلا حامل. فعلا صوت أمّ جميل بالضّحكِ وقالت: “أنا أعلم بحملها منذ أكثر من ثلاثة أشهر!” فأخجلتها جارتها حين عارضتها بالقول: “ولكن لم يمضِ على حملها أكثر من شهرين!”
ورُبَّ قائلٍ، لو لم تتباهَ أمّ جميل بمعرفتها المسبقة، لما بالغت ولما وقعت في فخّ الادّعاء. أوليس ما فعلته تمامًا ما يجيده الأطفال في مشادّاتهم في أثناء إثبات آرائهم؟ أيا ليتها تغيّر سلوكها في المرّة المقبلة فتُمسي أكثر حكمة.
بَيد أنَّ الشّخص الكتوم لا يسعى لإظهار ما يعرف، بل يتهرَّب من مواقف كثيرة كي يستر ما يعلمه ولا يكشفه. ويجتهد لعدم تشويه صورته أمام مَن وثقوا به.
وبينما يرقد السرّ داخل الإنسان يُثقِله بكمٍّ هائل من المسؤوليّة. ففي بعض الأحيان، كتمان الأمر يترك في قلب المرء حيرةً ما بين بوح السرّ بغية خير الآخر، أو دفنه داخله صونًا للصّداقة أو خوفًا من تفشّي الخبر، أو أذيّة صاحبه المحبوب. وفي كلّ الأحوال إنّ حمل السرّ يرهق.
فلطالما كان خليل موضع ثقة أهل بلدته كونه يحفظ أسرارهم. ولكن لم يكن على اطّلاعٍ علميّ يُفيد بأنّه يصون مشاعره من التّأثير على صحّته الجسديّة. بعبارةٍ أُخرى، لم يمارس ما ينصح به أطبّاء علم النّفس الأشخاص الّذين يستمعون لشكوى الآخرين، أي بصرف وقتٍ بعيدًا عن المشاكل يكون مضاعفًا للوقت الّذي قضوه تحت وطأة حمل الهموم.
وما أجمل ما كان يتردّد على لسانه، ما جاء في سفر الأمثال: “السَّاعِي بِالْوِشَايَةِ يُفْشِي السِّرَّ وَالأَمِينُ الرُّوحِ يَكْتُمُ الأَمْرَ.” وترتّب عليه الاستماع إلى جميع أبناء البلدة، فأتت أخبارهم شاقّة على نفسه. وما زاد مهمّته صعوبة، تفاصيل حكاياتهم الّتي أثّرت فيه، حينما صار يتعاطف معهم، فيشاركهم أحزانهم وأفراحهم. ومن شدّة أمانته، لم يكن يستطيع التّعبير عن مشاعره أمام أيّ أحد، خوفًا من زلّة اللّسان الّتي تؤدّي إلى نهاية إخلاصه. ونتيجة لعيشه كلّ هذه التّقلّبات من حزنٍ وقلق، رافقت حمله هموم النّاس، خارت نفسه وضَعُفَ جسده، فأضحى مُنهَك القوى.
لأنّ صحّة الانسان الجسديّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصحّته النّفسيّة، فالنّفس البشريّة لا تقدر على احتمال همومٍ بدون ترك أثارٍ مؤذيةٍ للإنسان إن كان من النّاحية الوجدانيّة أو من النّاحية الجسديّة. وخيرُ مكانٍ يمحو وطأة التّعب نجده في المساحات الخضراء. فاللّجوء إلى الطّبيعة والاستسلام لجمالها وسكينتها أنجع علاج.
لأجل ذلك، يحتاج الإنسان الأمين لوقاية كيانه من مخلّفات التّوتُّر. فكما يحفظ صيته الطّيّب، كذلك يحمي حالته النّفسيّة، لكي يستطيع أن يستمرّ بالوقوف إلى جانب مَن يقصده.