أولادنا هم أغلى ما عندنا وأمانة في أعناقنا، فليس كثيرًا إن بذلنا كلّ جهد في تقديم الأفضل لهم. لقد سبق أن عالجنا، في العدد السّابق، ثلاثة أخطاء في تربية الأولاد وهي: الإهمال، الحماية المفرطة وعدم الحوار والإرشاد. ولا بدّ من أن نستكمل بحثنا في أخطاء أخرى قد نرتكبها
كأهل، ومنها:
الحريّة من دون ضوابط
أعرف الكثير من الأولاد الذين يتحكّمون بأهلهم. يفعلون ما يحلو لهم بلا رادع ولا حدود. حتّى يُقال، اليوم، إنّ الأولاد يربّون أهلهم بدلاً من أن يربّي الأهل أولادهم. شعار هؤلاء الأهل “لا تقولوا لا لأولادكم. اشرح للولد واترك له الخيار”.
يُعرف عصرنا بعصر الحريّة. لكن، كلّ حريّة من دون ضوابط وحدود تصبح لعنة ومصيبة. كما يقول لنا الرّبّ في سفر الأمثال 29: 15 “الصّبيّ المطلَقُ إلى هَواه يُخجِل أمَّه”. لذا، يجب وضع حدود واضحة لأولادنا إن كنّا لا نريد خسارتهم. هذه الحدود يجب أن تكون ضابطة، حامية، وفي الوقت نفسه واضحة، معقولة، غير خانقة، قابلة للتّطبيق وملائمة لعمر الولد. فلكلّ عمر ضوابط مختلفة، وهذا يتطلّب منّا الكثير من الوعي والحكمة والتقرّب من أولادنا.
والتّربية الحكيمة هي الّتي تؤهّل الولد وتدرّبه ليُحسِن استخدام حريّته، وليعرف أهميّة هذه الضّوابط ويحفظها ويلتزم بها “فلا تُصيِّروا الحريّة فُرصَة للجسد”. إنّ الضّوابط تُشعِر الولد بالأمان، وتحميه وتُريحه ليكبر ويكون ولدًا مهذّبًا، مُتّزنًا، رصينًا، مُنتجًا وذا نفسيّة سليمة. في كلّ مرحلة من عمره، يجب أن نحضّره نفسيًّا وأخلاقيًّا حتّى يصير جاهزًا للمرحلة القادمة، حيث المزيد من الحريّة. إذاً، فالحريّة يجب أن تُعطى بتدرّج تصاعديّ بطيء وبتحضير مُسبَق. إنّ كلّ حريّة في غير محلّها تُعرّض الولد، وبخاصّة المراهق، للكثير من الأزمات والمشاكل الّتي يصعب حلّها، بل قد تترك فيه أثرًا سلبيًّا وجراحًا عميقة ترافقه طوال العمر. والملوم الأوّل، هنا، هو نحن، الأهل. كما يجب أن تُعطى الحريّة بحسب نضج الولد وقوّة شخصيّته وقدرته على التّمييز، وقد لا يرتبط ذلك بمفكّرة دائمة ومحدّدة. مثلاً، قد يُعطي أحد الآباء الحرّيّة لابنته ذات الأربعة عشر ربيعًا، لتسهر أينما تريد بعد أن يكون قد شرح لها كلّ العواقب الممكنة. أمّا هي فكانت في ذروة العناد والتمرّد والجهل والتهوّر، وغير مهيّأة لتجابِه وتقاوِم تأثير الأصحاب. لقد أفسدت هذه الفتاة حياتها وانتهت في اضطراب نفسيّ حادّ. فهل يجب أن يتمرمر الولد بكلّ وسخ الدّنيا ليتعلّم “من جلدِه” كلّ شيء؟
القسوة المفرِطَة
صحيح أنّ الحريّة من دون حدود تضرّ الولد، ولكنّ القسوة المفرِطة تضرّه أيضًا. طبعًا إنّ التّعنيف الجسديّ والنّفسيّ مرفوض من أساسه. ولكن، هل نرفض مبدأ التأديب ككلّ؟ هناك فرق كبير بين التّأديب والقسوة. فالتّأديب ضروريّ جدًّا، ويجب استخدامه عندما يكون العصيان مُتعمَّدًا ومقصودًا فقط. والتّأديب المفيد يجب أن يكون بحجم العصيان: عادلاً ومُنصِفًا لا قاسيًا ومُجحِفًا. أيضًا يجب أن يكون بمحبّة وليس كردّة فعل أو “فشّة خلق”. “أدّب ابنك فيُريحك ويُعطي نفسك لذّات”.
قد لا نعرف كيف نوفّق بين القسوة والرّخاوة، فإمّا نكون قاسين بشدّة ونُبعد الولد عنّا ونكسر شخصيّته وعنفوانه، أو ندلّله ونتساهل كثيرًا مع أخطائه، وبالتّالي يصير الولد متمردًّا وعاصيًا وصعب المراس للغاية.
نحتاج إلى حكمة خاصّة لنميّز الأمور المهمّة الّتي تحتاج منّا إلى وضع حدود صارمة، والأمور الأقلّ أهميّة والّتي لن تضرّ بولدنا والّتي قد نتساهل فيها حيث يمكن التساهل. إنّ الأمور الّتي تمسّ بالأخلاق والعادات السيّئة والعصيان المتعمّد… يجب أن تكون خطًّا أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أيّ ظرف كان. أمّا الأمور والأخطاء المتعلّقة بالدّرس والأمور المعيشيّة كالأكل والنوم واللّعب والأخطاء العفويّة…كلّها يمكن مناقشتها. فمثلاً، نُعاقِب الولد على كذبه ووقاحته أو إذا ذهب إلى مكان فاسد أو فعل أمرًا مُشينًا، ولا نعاقبه إذا كان بليدًا أو بطيء الفهم أو غير اجتماعيٍّ أو غير دقيق الملاحظة أو غير مرتّب، أو حتّى لو قصّر في دراسته أو لم يستطع إنجاز فرضه في وقت محدد أو ارتطم بغرض ما وكسره عن غير عمد وليس بدافع التّمرّد.
والتّأديب، أيضًا يجب أن يكون بحسب العمر. حتّى لو كبر الولد وصار في سنّ المراهقة، هناك الكثير من الأمور المحبّبة على قلبه الّتي يمكن أن نمنعه عنها لفترة. المطلوب هو لا قسوة و لا تساهل بل سلطة مع ضوابط مجبولة بمحبّة متناهية.
عدم تعبير الأهل لأولادهم
إنّ أولادنا بحاجة ماسّة إلى سماع كلمات التّشجيع منّا، على قدر ما نستخدم كلمات التّأنيب والانتقاد. وفوق الكلّ، علينا أن نُسمِعَهم كلمات المحبّة والدّلال وأن نُقبّلهم ونعانقهم ونحضنهم بلمسات المحبّة والحنان. نعم، هذه حاجة ماسّة. فلو أعطيت الطّفل الماء والطّعام والدّفء ولم تحمله بالمطلق وتقبّله، فلن يكون سليمًا أبدًا.
معظم الأهل يدلّلون أولادهم كثيرًا وهم أطفال رضّع، ولكنّهم ينسون أنّ هذه الحاجة تستمرّ وتكبر معهم – مع الفارق بين الأسلوب المستخدَم بين الصّبيّ والبنت. أولادنا بحاجة إلى أن يعرفوا ويشعروا ويتأكّدوا من أنّهم محبوبين، مهما كانوا وكيفما كانوا، وليس فقط إذا كانوا مجتهدين أو جميلين، ومن دون تمييز.
يحتاج الولد أيضًا إلى سماع كلمات الفخر والاعتزاز من أهله. فمثلاً، في أثناء الصّلاة العائليّة، يجب أن يشكر الأهل الرّبّ لأجل أولادهم. من المهمّ أن يسمع الأولاد هذه الكلمات من الأهل، لا كلمات التّذمّر والخجل والتعيير والازدراء، وبخاصّة في حديثهم مع النّاس.
تأديب من دون محبّة أو محبّة من دون تأديب تجعل سفينة حياة الأولاد تنكسر وتغرق.