في وسطِ أزمةِ لبنانَ الإقتصاديّةِ الحادّةِ، ينظر الشّباب إلى الأفق باحثين عن بصيص أملٍ وَهُم مثقلين بهمومِ مواجهةِ المستقبلِ، ويتطلّعُ الرؤيويّونَ إلى سبلٍ عمليّةٍ يقترحونها على أجيالِنا الشّابةِ وتلكَ القادرةِ على الإنتاجِ في سبيلِ التغلّبِ على صعوباتِ الدّهرِ وتأمينِ حياةٍ كريمةٍ لائقةٍ. ويذهبُ عددٌ منَ الخبراءِ لمناقشةِ موضوعِ الابتكارِ ومساراتِه وكيفيّةِ تطويرِ مجالاتِه، وهناكَ الكثيرُ اليومَ مِمّا يُساعدُ ويبثُّ الأملَ، والميدانُ خيرُ شاهدٍ على شبابٍ كسروا رتابةَ الجمودِ القاتلِ.
وأسمحُ لنفسي أن أناقشَ بكلماتٍ قليلةٍ، ومنَ الزّاويةِ الحِكَمِيّةِ، دورَ الإنسانِ في الأرضِ بالمطلقِ. هل هو مخلوقٌ يُنتِجُ ليأكلَ وليُعيلَ وحسْبُ؟ أو أنّه يُنتِجُ ليُحقّقَ ما هو أسمى من ذلكَ، ألا وهو سموُّ الحياةِ الإنسانيّةِ. قد لا يبدو النقاشُ الفلسفيُّ مناسبًا، في ظرفٍ نُريد أن نبتكرَ فرصَ عملٍ جديدةٍ مُجديةٍ وعصيّةٍ على معوقاتٍ قاهرة ٍكتلكَ الّتي نواجِهُها في وطنِنا الآن. إلّا أنّنا مُجمِعون على أنَّ الكلامَ على الابتكارِ هو طرحٌ علميٌّ بأبعادٍ عمليّةٍ تطبيقيّةٍ تسعى إلى تجاوزِ التّنظيرِ لتصلَ إلى تقديمِ ما يكونُ لهُ نفعٌ، في بلادٍ ثروتُها الطبيعيّةُ الوحيدةُ، إلى الآنَ، تكمنُ في العقلِ البشريِّ والخبراتِ الّتي يمكنُ أن يُكوّنَها لتُعطيَه قدرةً إنتاجيّةً لا تُعيقُها الحواجزُ مهما كانَت.
وإذ يكثرُ كلامُ أهلِ الاختصاصِ حولَ الابتكارِ ويستعرضون ما يُعيقه وما يُسَهّلُه للوصولِ إلى مجتمعٍ منتجٍ، ويُناقشون أهميّةَ الكفاياتِ والمناهجِ والتفكيرِ الابتكاريِّ وجودةِ التعليمِ، رحت بذاكرتي إلى فلسفةٍ قرأْتُها واعتنقْتُها، وكنْتُ بعدُ ابنَ أربعةَ عشرَ سنةً، وهي فلسفةُ “سعيد عقل” السياسيّةُ. وهي فلسفةٌ خطَّها في نبذةٍ صغيرةٍ عَنوَنَها “الوثيقةُ التبادعيّةُ” الّتي وضعَها لحزبِه الّذي لم يُبصِرِ النّورَ ودعاه “الطليعةُ التبادعيّةُ”، وكانَ ذلكَ في آب 1976، وكانَتِ الحربُ الهمجيّةُ دائرةً في لبنانَ والإنسانُ يُقتَل فيها بلا شفقةٍ والبلدُ يُهدَمُ فيها بلا رحمةٍ.
طرحَ “سعيد عقل” يومَها في “الوثيقةِ التبادعيةِ”، وكانَ هذا قبلَ حوالي نصف قرن من الآن، أنَّ “خليقةَ اللهِ تُكرَمُ أو تُذلُّ بقدرِ ما تروحُ تقرُبُ إلى أن تصيرَ مثلَ الله أو تبعُدُ”. وقالَ بجرأةٍ لاهوتيّةٍ فريدةٍ أنَّ الإنسانَ “يشعرُ بكرامةٍ أجملَ” عندما “يُضارِبُ لا على أقلَّ من أن يُبدِعَ ولا يتنازلُ عنِ الإيمانِ بمزاملةِ اللهِ (في الإبداع)”.
وهكذا، رأى “سعيد عقل” الإنسانَ يستلهمُ من اللهِ أيَّ إنسانٍ يجبُ أن يكونَ. فيحكي صاحب “الطليعة التبادعيّة” عن “الإنسانِ البادِعِ” الذي خلقه الله ليكون أكثر من مُجرّدَ “إنسان منتجٍ” ليعلوَ على نفسِه أكثرَ وأكثرَ ويتطلّعَ إلى أن “يتبادَع” أي “يعملَ أعجوبةً يجترحُها” هو والناسُ “المتبادِعون” من حولِه ومعَه.
وهكذا يحكي “سعيد عقل” عن أمّةٍ تبادعيّةٍ طموحةٍ تُحسِنُ “اللعبةِ التبادعيّةَ” ليسَ فقط لخيرِ الفردِ، بل أيضًا لخيرِ الجماعةِ. وهكذا يُرفَعُ المجتمعُ ليكونَ أكثرَ من “مجتمعِ الإنتاجِ للإستهلاكِ” ليسيرَ في طريقِ “الإنتاجِ الجودَوِيّ” حيثُ “يتجودَن” المجتمعُ ويتحوّلُ الإنسانُ “من مُنتِجٍ للإستهلاكِ إلى فنّانِ حياتِه”. وهكذا، تصيرُ التبادعيّة “حركةَ كسرِ طوقٍ”، حسبَ ما قالَ “سعيد عقل”، نحتاجُها في زمنٍ يختنقُ كلُّ شيءٍ ما عدا قدرةُ الإنسانِ على الإبداعِ والابتكارِ ومزاملةِ الله.
وقبلَ أن أختمُ كلماتي القليلةَ هذه، مُشجّعًا شبابَنا على المغامرةِ في الابتكارِ والإبداعِ، أستحضرُ أنَّ “سعيد عقل” يومَها، في آب 1976، اقترحَ في مشروعِه التبادعيِّ أن يعملَ لبنانُ على ابتكاراتٍ جديدةٍ، منها السّيارةُ الكهربائيةُ والتلفونُ المتلفزُ والبريدُ الحديثُ من ضمنِ سلّةٍ من الاقتراحاتِ التي جعلَتِ الناسَ يتنمّرون عليه، متّهمينه بالجنون، وها نحنُ اليومَ نتسابقُ على السيارةِ الكهربائيةِ ونحملُ التلفونَ المتلفزَ ونستخدمُ الإنترنت للتواصلِ وذلكَ من دونِ أن نكونَ مُساهمينَ في الابتكارِ.
وإذ إنّ فرصَ الابتكارِ تظلُّ متاحةً، وسيل الإبداعِ لا ينقطعُ، والطموحُ البشريُّ المشروعُ هو هبةٌ إلهيّةٌ لا يستطيعُ أحدٌ أن يقفَ أمامَه، أقولُ لشبابِنا، لا تفشلوا فأنتم قادرون أن تُحقّقوا الكثيرَ عبرَ التحوُّلِ من شبابٍ مُستسلِمٍ ينتظرُ مَن يمنحُه فرصةً إلى شبابٍ مِقدامٍ ومُبدِعٍ لا يخافُ المستقبلَ إذ يتّكِلُ على اللهِ ويُزامِلُه في الابتكارِ المفيدِ.