تواجه القارئ لكلمة الله وللأدب العالميّ أفكارٌ تُظهِر تناقضًا في مضمونها إلّا أنّها تُقدّم حكمةً أو حقيقةً عالية الجودة تُفيد الإنسان إن تبنّاها أو عمل بها. تُعرَف هذه الحقيقة بِـ”التّناقض الظاهريّ” أو بـِ”المفارقات”. وهي باللغة الإنكليزيّة كلمة Paradox. قد تبدو هذه الحقائق للوهلة الأولى بدون قيمة، أو غير ممكنة أو غير منطقيّة، ولكن بعد التعمّق فيها تُظهِر صحّتها. على سبيل المثال، نستخدم التّصاريح التّالية: “الثابت الوحيد في الحياة هو التّغيير” أو “خذوا الحكمة من أفواه المجانين”. هنا نستذكر مفارقة سقراط الشّهيرة وهو القائل “أعلم أنّي لا أعلم شيئًا.”
ورد في الكتاب المقدّس آيات تظهر فيها مفارقات أو متناقضات تعكس حكمة الله المقدّسة مثل: “أَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ” و”قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ” وغيرها. ويلفتني في اللاهوت المسيحيّ فكرة “الموت المُحيي” المبنيّة على قول يسوع: “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ.”
في موضوع البذار، كلّنا يعلم أنّها إن طال بقاؤها في أوعيتها سوف تخسر قدرتها على التكاثر وبالتالي سيضيع الهدف من وجودها ولن تنفع لشيء وسيكون مصيرها التّلف. أمّا عندما توضع في التّراب وتتعفّن وتموت، فتستطيع أن تأتي بثمرٍ كثير.
إستعمل الرّب يسوع هذه المفارقة ليعلّمنا حقيقة أزليّة عن صلبه وموته وقيامته. فالهدف من تجسّده لم يكن ليتحقّق ما لم يمت ويوضع في الأرض (القبر) ويقم في اليوم الثّالث ليفدي جنسنا.
ونحن، كيف نطبّق هذا المثل في حياتنا؟ من أجل أن نحيى حقًّا علينا أن نموت أوّلاً. علينا أن نموت عن الأنا وعن الخطيّة وعن طموحاتنا النّرجسيّة. علينا أن “ننزل عن الرّف” ونخرج من دائرة الذّات ونخضع أنفسنا ونعطي الآخرين ونخدمهم . فالمواهب والقدرات والموارد الماديّة الّتي نملكها لن تكون مثمرة ما لم نقدّمها للآخرين ولله.
قد يعطينا العالم من حولنا رسالةً مناقضةً وهي حبّ الذّات والتّمتّع بمباهج الحياة وتحقيق الأهداف الأرضيّة البرّاقة. لكنّ هذه الرّسالة غير صحيحة وخادعة. فإن تبنّينا هذا المنطق سنكون تمامًا مثل البذرة الموضوعة على الرّف في أواني برّاقة والّتي بقيت وحيدة وفقدت قدرتها على الإثمار.
إنّ خصائص التّكاثر المتجسّدة في بذرة صغيرة هي شهادة رائعة لقدرة الله الخلّاقة. لذا علينا أن ندفن شخصنا القديم ونخضع أنفسنا للرّب ونسمح له أن يقود حياتنا. عندئذٍ فقط نختبر روعة الحياة الهادفة والمثمرة.