مع كلّ إشراقة شمس، تغصّ الأخبار العالميّة ووكالات الأنباء بفتوحات الذّكاء الاصطناعيّ وقدراته الهائلة. وهكذا نسمع عن قدراته على اجتراح المعجزات، وهو الحافظ الأمين لدماغ العالم والكون، ويعرف كلّ شيء ولديه حلول لكلّ شيء ويعرف مواقيت الزّمان وحدود الكون. ويقولون أنّه يعرف متى تقوم القيامة وكلّ ما له علاقة بالإنسان والوجود!
بالأمس صدرت مقالةٌ في وكالة أنباء عالميّة تدّعي أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يستطيع، مع بعض المعطيات والمعلومات عن شخصٍ ما، أن يُحدِّد له تاريخ وفاته، والدقّة في التّحديد تصل إلى نسبة سبعين بالمئة، كذا وبكلّ فخر وثقة.
وأمام هذا الواقع نقف متسائلين حول مفاهيم كثيرة مثل: الأعمار بيد الله، ولا أحد يعرف متى تأتي السّاعة سوى الله العليّ القدير، ولا تسقط شعرةٌ من رؤوسكم إلّا بأمر أبيكم الّذي في السّماوات؟
لست هنا في صدد مناقشة صحّة المعلومة أو انتقادها، ولكن ما يهمّني من كلّ هذه المسألة هو الإدّعاء البشريّ بأنّ الذّكاء الاصطناعيّ قادرٌ على اجتراح المعجزات من خلال العلم، والتّكنولوجيا.
فريدريك نيتشه، في كتابه جينيالوجيا الأخلاق، يطرح السّؤال التّالي: “أمّا بالنّسبة إلى انتصارات العلم الّتي نحتفي بها، ولا شكّ أنّها انتصارات، إلّا أنّنا نسأل: هي انتصارات على ماذا؟”
أنا أجد أنّ وقاحة الادّعاء أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يقدر على معرفة متى نموت ومتى نعيش، هي وقاحةٌ لا حدود لها وهي الغباوة القبيحة في أعلى ذراها. هي باختصار تجبُّر على عظمة الخالق.
إنّ تطوّر العلوم أمرٌ مطلوبٌ وبديع، ولكن أن نجعله يستولي على دور الخالق في تحديد ساعة موت كلّ إنسان فهذا عملٌ أخرق. ناقش الحكيم سليمان موضوع الحياة والموت. عرِفَ أنّ “لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ. لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ”. وخَلُصَ سليمان في نقاشه المُعمّق في مسألة الحياة والموت إلى القول أنّ الموت يُفاجئ الإنسان ولا يعرف أحد ساعة قدومه. “لأَنَّ الإِنْسَانَ أَيْضًا لاَ يَعْرِفُ وَقْتَهُ. كَالأَسْمَاكِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِشَبَكَةٍ مُهْلِكَةٍ، وَكَالْعَصَافِيرِ الَّتِي تُؤْخَذُ بِالشَّرَكِ، كَذلِكَ تُقْتَنَصُ بَنُو الْبَشَرِ فِي وَقْتِ شَرّ، إِذْ يَقَعُ عَلَيْهِمْ بَغْتَةً.” (جا 3: 2؛ 9: 12). ومثل فجائيّة الموت هكذا تكون ساعة عودة المسيح، لا يقدر أحد أن يُحدّدها. قال يسوع: “لأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لاَ تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الإِنْسَانِ” (مت 24: 44).
وأصِلُ للخلاصة أنّه مهما زادت علوم النّاس وتطوّر الذّكاء الاصطناعيّ، أرى أنّ الخالق أبقى في سرّه لحظة موت كلّ إنسان، وذلك ليدفع الجميع لليقظة والسّهر والاستعداد الدّائم للحظة الرّحيل وللوقوف أمام الخالق الديّان.