يتربّى المسيحيّون على الاعتراف: “ونؤمن بكنيسة واحدة جامعة مُقدّسة رسوليّة”. ولطالما سألت نفسي: ما المقصود “بالكنيسة المُقدّسة”؟ هل هي قداسة مُحقَّقَة في أرضنا أو أنّها قداسة مرجوّة في السماء؟ وهل الكنيسة مُقدّسة بطقوسها وبدورها أو هي جماعة قدّس طبيعتها وجود المسيح فيها وعلى رأسها؟ تستحقّ كلّ إجابة من هذه البحث المُعمّق.
ثُبِّتت هذه العبارة في قانون الإيمان الّذي صاغه آباء الكنيسة المجتمعون في نيقية في العام 325 م. وقد سَبَقَ ووردت في اعترافات إيمان أستخدمها الأساقفة منذ القرن الثّاني وذلك عند إعدادِهم الموعوظين للمعموديّة وللدّخول إلى عضويّة الكنيسة. وأسأل، ما كان هَمُّ هؤلاء الرّعاة خلال تلقينهم المؤمنين بأنّ “الكنيسة مُقدّسة”؟ هل كان ذلك حرصهم على حفظ قداسة أعضائها الآتين من الخطيّة بالتّوبة، أو لجعلِ المؤمنين يحترمون قدسيّة الكنيسة وشعائرها الدينيّة وعدم تعريضها للرّوح الدنيويّة؟
من يُطالِع الموروث الوعظيّ والتعليميّ المتروك لنا من آباء القرون الثّلاثة الأولى، يرى أنّ رعاة الكنيسة الأولى حرّكهم هَمَّان: الهمّ الأول كان خلاصيًّا دفعهم لتبشير العالم بالإنجيل ليخلصوا من الخطيّة، والهَمُّ الثاني كان تقديسيًّا هدف إلى تعزيز قداسة المُخلّصين ليكونوا “أمّة مُقدّسة” غير مشوبة بعَيب أخلاقيّ كما أرادها المسيح أن تكون. يستطيع قارئ العهد الجديد أن يجد بسهولة آياتٍ ووصايا تُذكِّر المؤمنين بضرورة عيش القداسة: “كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ” و”لأَنَّ هذِهِ هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: قَدَاسَتُكُمْ” (1بط 1: 16؛ 1تس 4: 3).
عظيمٌ هذا القصد الإلهيّ المبارك الهادف إلى ترفيع الخطاة إلى مرتبة القدّيسين. لكن وإذ نراقب تاريخ “الكنيسة المقدّسة” لا نجدها سوى مُلطّخة بالفساد البشريّ وعصيّة على الإصلاح رغم المحاولات الإصلاحيّة المتكرّرة شرقًا وغربًا وعبر كلّ العصور. باكرًا اشتكى كبريانوس القرطاجيّ (210-258 م) من رعاة “تركوا الوعظ والإرشاد والإهتمام بالرّعايا طلبًا للمال بطرق غير شرعيّة محتقرين السّماويّات”. وكتب جيروم في نهاية القرن الرابع أنّ حياة التّرف والتّبذير وتعظّم المعيشة قد ضربت الكهنة. ولم تكن حَرَكَتَي الإصلاح الإنجيليّ في القرن السّادس عشر وبعده الإصلاح الكاثوليكيّ المُضادّ إلّا محاولات متقدّمة لإنقاذ الكنيسة من فساد المال المُتمثّل يومذاك بالسّيمونيّة وبيع صكوك الغفران وفساد الإكليروس والأحبار.
سبق تلك المحاولتين قدّيسون حاربوا الفساد الكنسيّ واضطُهِدوا من قِبَل قادة كنسيّين عاصروهم. من يدرس تاريخ الحركات النّسكيّة والرّهبانيّة يرى في صميمها انسحاب أتقياء مُخلِصين من مجتمع كنسيّ فَسُدَ وصار عَصِيًّا على الإصلاح ففضّلوا الإنعزال طلبًا للكمال الروحيّ والأخلاقيّ ولحفظ أنفسهم في القداسة. واعتقد أنطونيوس الكبير (251-356 م)، بأنّ الكنيسة لم تعد المكان المناسب ليحيا الإنسان القداسة الحقيقيّة، وأنّ قراءة كلمة الله وممارسة الصّلاة والصّوم في البريّة لها الأفضليّة على الحياة العامّة في الكنيسة. إلّا أنّ الرهبنات لاحقًا لم تقدر أن تحمي حصونها من الترف والمفاسد فاحتاجت بدورها للإصلاح واشتهر كلّ من بندكتوس وبرنار دو كليرفو وفرنسيس الأسيزي ودير كلوني في فرنسا في محاولاتهم الإصلاحيّة عشيّة الألفيّة الأولى وبداية الثّانية. وهكذا بقِيَت أمواج الفساد تتلاطم مع أمواج الإصلاح في حالات مَدٍّ وجزرٍ في كنيسة من المفترض أنّها تَعِي قداستها وتُحافظ عليها.
وفي العام 1674، برز في هولندا راعٍ إنجيليّ مُصلَح، وهو جودوكوس فون لودنستاين، اشتهر بشعاره المشهور: “مُصلَح ودائم الإصلاح” أو Reformed and always reforming. اعترف هذا المُعلّم أن الكنيسة تحتاج، ليس فقط للنظر في نقاوة عقيدتها وعبادتها وسلامة نُظُمِها، بل أيضًا يحتاج قادتها وأعضاؤها لإصلاح حياتهم وحفظها في سُبُلِ التّقوى والقداسة بشكلٍ مستمرّ.
ننظر اليوم إلى واقع الحال ونسأل: أين هي الكنيسة المقدّسة؟ هل مَن يجدها؟ ولماذا استشرى الفساد الماليّ والأخلاقيّ فيها وتحكّم بمفاصلها وقادتها وناسها فصارت أيّ محاولة لإصلاحها مرفوضة ومستحيلة؟ هل ما زال هؤلاء الّذين يعترفون بأنّ “الكنيسة مُقدّسة” يعرفون أنّ برهان قداستها يحتاج لأكثر من slogan شفهيّ؟
من الواضح “أنّ محبّة المال الّتي هي أصلٌ لكلّ الشرور” هي ما يمنع أيّ عمل جدّي لإصلاح الكنيسة. واضح أنّنا في زمن احتلّ فيه تجّار الدّين والمستفيدون منهم، والضّعيفون أمامهم، المكانة الأبرز في قيادة الكثير من الهيئات الكنسيّة الروحيّة والتّربويّة والإجتماعيّة فأفسدوها، وحَمَوا الفساد والفاسدين فاستعصى الإصلاح. أمّا من يُغامر في محاربة هذا “الفساد الكنسيّ” فعليه أن يعلم أنّه كمن يُحارِب الفساد في المجتمع السياسيّ، سيكون وحيدًا في معركة مكلفة، وسيتحمّل أشنع الحملات المُضادّة لثنيه عن الإصلاح.
يبقى البابا فرنسيس عَلَمًا في مواجهته الموصوفة والجريئة للفساد الماليّ والأخلاقيّ في الكنيسة الكاثوليكيّة. فهو يعتبر أنّ الفساد شرّ قديم لا يمكن تجاهله إذ يطلّ برأسه في كلّ جيل ويجب محاربته في الإدارة الكنسيّة وبين العلمانيّين والإكليروس على جميع رتبهم. وقال في عظته في “صلاة التّبشير الملائكي – آنجيلوس” التي ألقاها من على شرفته في الفاتيكان في 18 أيلول 2022 أنّه يجب ألّا نُحبَط أو نكون غير مبالين في محاربة الفساد في أيّامنا هذه. ناقش بعده المجتمعون في “مؤتمر لوزان” المنعقد في كوريا في أيلول 2024 مسائل النّزاهة ومحاربة الفساد في الكنائس والمنظّمات المنضوية تحت الاتّحاد الإنجيليّ العالميّ. ورأوا أنّه يجب أن توضع جهود مكثّفة لتعزيز النّزاهة في الدّوائر الكنسيّة والمنظّمات الإرساليّة وذلك عبر تعزيز روح الإستقامة الأخلاقيّة لدى الأفراد، وتوطيد الحوكمة الرّشيدة والشّفافيّة واعتماد نُظُم المساءلة لمحاربة الفساد داخل المؤسّسات وذلك لتحقيق شهادة ناصعة ليسوع في العالم.
واضح أنّنا في زمن رديء للغاية تكثر فيه الأنانيّة وتفضيل المصلحة الشخصيّة على الحفاظ على الحقوق، ويندُر فيه وجود أشخاص يواجهون السّارقين بجسارة، كما واجه بطرس الرّسول حنانيا وزوجته سفيرة، ويضعون حدًّا لفسادهم وبشكلٍ حاسم. لكن ألا تستحقّ الكنيسة الجهد لحفظ قداستها؟ طبعًا تستحقّه إكرامًا للمسيح وتجاوبًا مع عمله التقديسيّ وهو الّذي “أَحَبَّ الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا… لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ.” (أف 5: 25-27).
اقترح أن يُلزَم كلّ مسؤول في الكنيسة أو في مؤسّساتها أن يوقّع تعهدًا عند استلامه مسؤوليّته يقول فيه: “أؤمن بكنيسة مقدّسة وأتعهّد محاربة الفساد فيها”. كما يبدو أنّ محاربة الفساد في الكنيسة وفي العالم هو الجهاد الأكبر الموضوع أمام كلّ جيل. ووحدهم المنخرطون فيه، وعلى قلّتهم، يُحقّقون “الكنيسة المُقدّسة”. ومن هؤلاء بدون سواهم يتقبّل الله “الذوكسولوجيا” (التّمجيد) إذ يرفعونها مع بولس الرّسول قائلين: “لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ” (أف 3: 21).