من هو الوحش الخارج من البحر الّذي حكى عنه يوحنا في (رؤ 13: 1-10؛ 17: 8-14). إنّه أحد الوحشَين ويَليه وحش آخر صاعد من البرّ، ويظهران في الضّيقة العظمى في الأيّام الأخيرة. أمّا الوحش الأوّل فهو يُمثّل تحالفًا لعدد من الدّول أو الملوك يصعد إلى المشهد العالميّ مدعومًا من التّنين أو (الشّيطان) ليُخضِع الشّعوب له ليعبدوه (رؤ 13: 1، 4). يتطابق هذا الوصف مع ما جاء في نبوّة دانيال عن هذا الوحش والّتي جاءت في القرن السّادس قبل الميلاد (دا 7: 24؛ 8: 23).
أمّا وصف يوحنا الوحش الأوّل بكونه “الطّالع من البحر” فهي إشارة لكونه أمميًّا (رؤ 13: 1؛ 17: 15؛ ويُمثّل الأمبراطوريّة الرومانيّة التي خرّبت المدينة المقدسة. دا 7: 7-8؛ 9: 26، 27؛ لو 21: 24). والإشارة لكونه “الصّاعد من الهاوية” فتُشير إلى كونٍ فيه روح شرّير خارج من عند إبليس، التنين الّذي يُحرّكه (رؤ 11: 7).
ويصف الوحش بالنّمر، وله أقدامٌ كأقدام الدّبّ، وفمٌ كفم الأسد (رؤ 13: 2). وهذه الصّور لها دلالاتها ومعانيها وقد وردت في حلم بيلشاصر ملك بابل أيّام النّبي دانيال. فالوحش، بتشبيهه للنّمر، يأخذ قوّة مملكة اليونان. (دا 7: 6). وبتشبيهه بالدّبّ يأخذ قوّة المملكة الماديّة-الفارسيّة (دا 7: 5). وبتشبيهه بالأسد يأخذ قوّة بابل (دا 7: 4).
هل الوحش شخص أو حكومة عالميّة؟
ثم يعود يوحنّا الرّائيّ ليتكلّم عن الوحش الخارج من البحر كشخصٍ وليس كتحالف دول. وهنا نرى التّماهي بين الشّخص والأمبراطوريّة. وقد سبق واستخدم العهد القديم مرّتين صورة الوحش أو التّنين للإشارة إلى ملكٍ عالميّ (إر 51: 34؛ حز 32: 2). واستخدم دانيال النبيّ هذه الصّورة عينها في كلامه عن قرن صغير يطلع من بين عشرة قرون حيوان وحشيّ: “وَالْقُرُونُ الْعَشَرَةُ مِنْ هذِهِ الْمَمْلَكَةِ هِيَ عَشَرَةُ مُلُوكٍ يَقُومُونَ.” (دا 7: 24، 25). يقول المفسّرون أنّ هذا القرن الصّغير هو الوحش الخارج من البحر، وكانت قوّته مبهرة حتّى أنّ الشّعوب خافت منه وخضعت له بدون حرب، وهم يقولون”مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟ وَأُعْطِيَ فَمًا يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ وَتَجَادِيفَ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا.” (رؤ 13: 4، 5).
وهناك علامةٌ لهذا الشّخص. هي علامة الجرح المُميت الّذي شُفِيَ منه (رؤ 13: 3). ويُسأل ما إن كانت هذه العلامة هي لشخص الوحش أو لأحد مكوّناته السّياسيّة؟ كأن يكون ضمن رؤوسه دولة قد اختبرت التّقهقر ثمّ عادت للحياة. والبعض يرى أنّها إشارة للأمبراطوريّة الرومانيّة الّتي اندثرت عند قيام الأمبراطوريّة المسيحيّة، ثم تعود لتنبعث من جديد في آخر الأيّام.
سلطان الوحش وأعماله
وأعطِيَ هذا الوحش “سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ” في العالم. وهو سيطلب السّجود له. ولن يقبل أيّ تهاونٍ في ذلك. حتّى أنّ مَن يُقاومه من المؤمنين يومذاك سيُحاربه ويُخضعه. (رؤ 13: 7، 8؛ قارن مع دا 11: 36). هنا نسأل هل هذا السّجود هو خضوعٌ مدنيّ أو خضوعٌ دينيّ للوحش؟ إنّه سجودٌ مدنيّ ودينيّ في آن. فهو من جهة يتسلّط على حياة الناس، كديكتاتور مُطلَق، ويتحكّم في سَيرِ حياتهم وأيامهم، إلّا أنّ هدفه الأوّل هو التّجديف على شخص الله، وعلى اسمه ومسكنه وعلى أهل السّماء، لفرض السّجود له، وسيضطّهد من لا يسجد له. وسيُمارس هذا التّجديف وهذا التّسلّط بشكلٍ عنيفٍ ومُكَثّف ومحدود لمدة 42 شهرًا. (رؤ 13: 5، 6). نقرأ نصًّا موازيًا لهذا الّذي ورد في سفر الرّؤيا وذلك في دانيال 7: 21 و 25. “وَكُنْتُ أَنْظُرُ وَإِذَا هذَا الْقَرْنُ يُحَارِبُ الْقِدِّيسِينَ فَغَلَبَهُمْ… وَيَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ ضِدَّ الْعَلِيِّ وَيُبْلِي قِدِّيسِي الْعَلِيِّ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ يُغَيِّرُ الأَوْقَاتَ وَالسُّنَّةَ، وَيُسَلَّمُونَ لِيَدِهِ إِلَى زَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ وَنِصْفِ زَمَانٍ.”
من هذه النّصوص يربط المفسّرون الوحش الخارج من البحر بشخصيّة “ضدّ المسيح” Antichrist الّذي وصفه بولس الرّسول في كلماته التالية: “لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ أَحَدٌ عَلَى طَرِيقَةٍ مَا، لأَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلاً، وَيُسْتَعْلَنْ إِنْسَانُ الْخَطِيَّةِ، ابْنُ الْهَلاَكِ، الْمُقَاوِمُ وَالْمُرْتَفِعُ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى إِلهًا أَوْ مَعْبُودًا، حَتَّى إِنَّهُ يَجْلِسُ فِي هَيْكَلِ اللهِ كَإِلهٍ، مُظْهِرًا نَفْسَهُ أَنَّهُ إِلهٌ.” (2تس 2: 3، 4). وهذا يتطابق مع ما قاله إبليس عند تمرّده (إش 14: 13، 14).
يظهر هذا الوحش بعد خروج الرّوح القدس من العالم، أي بعد يوم الإختطاف. (1تس 4: 16-17؛ 2تس 2: 7). ويعمل عهدًا مع شعب إسرائيل في الأسبوع السّبعين، وهو سُباعيّة سنوات الضّيقة العظمى في آخر الأيّام. “وَيُثَبِّتُ عَهْدًا مَعَ كَثِيرِينَ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ، وَفِي وَسَطِ الأُسْبُوعِ يُبَطِّلُ الذَّبِيحَةَ وَالتَّقْدِمَةَ، وَعَلَى جَنَاحِ الأَرْجَاسِ مُخَرَّبٌ حَتَّى يَتِمَّ وَيُصَبَّ الْمَقْضِيُّ عَلَى الْمُخَرِّبِ.” (دا 9: 27). وفي وسط هذا الأسبوع ينقض العهد مع بني إسرائيل، ويدخل إلى أورشليم ويأخذها عاصمةً له. ويدخل إلى هيكل الله ويُعلن نفسه كإله ويطلب العبادة له. (دا 11: 42، 45؛ 2تس 2: 4). وهكذا يُنجّس الهيكل، وتقع “رجسة الخراب” التي حذّر منها يسوع. (مر 13: 14).
وعندئذٍ ستجتمع ضدّ هذا الوحش ممالك الشّرق وجيوشها الجرّارة. ويعبر مئتي مليون جنديّ نهر الفرات لمحاربته في هرمجدون. (دا 11: 40، 42؛ حز 28: 7؛ رؤ 16: 13-19). أما موقع هرمجدون فهو جنوب شرق حيفا حيث جرت معارك عديدة في التاريخ بين الفراعنة والكنعانيّين في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وبين الفراعنة واليهود في القرن السابع قبل الميلاد، وبين الحلفاء والعثمانيّين في حرب 1918.
نهاية الوحش الأول
سيُهزَم هذا الوحش الذي سيحكم العالم بتسلّط وذلك عند المجيء الثّاني للمسيح في نهاية الضّيقة العظمى. حيث سيُقبَض عليه ويُدان ويُرمى في البحيرة المتّقدة بنارٍ وكبريت مع التّنين والنّبيّ الكذّاب (حز 21: 7-10؛ 28: 8-10؛ دا 7: 11؛ 2تس 2: 8؛ رؤ 17: 11؛ 19: 19-20؛ 20: 10). وعندئذٍ يستعيد الرّبّ يسوع وقدّيسيه المُلك على الأرض (دا 7: 27؛ رؤ 11: 15).
وإلى ذلك الوقت، القدّيسون مدعوّون إلى الصّبر والإيمان، فعدالة الله آتية لا محالة (رؤ 13: 10). ومن له الفهم يحذر الإنقياد خلف زعماء عالميّين يستخدمون التّضليل الدّينيّ ويفرضون أنفسهم كمُخلّصين للعالم، وهم بالحقيقة، مُسيّرين من روح التّنين، ويُشبِهون الوحش الخارج من البحر إذ يتسلّطون على الإقتصاد والسّياسة والتّكنولوجيا ومصائر الشّعوب في العالم بأنانيّة وبلا رأفة. حذّرنا يسوع من أضداد المسيح إذ يكونون في مقدّمة من يضطهد القدّيسين (مت 24: 24؛ رؤ 13: 7). إنّ أضدادًا كثيرين للمسيح موجودون في العالم اليوم. أمّا “الوحش – ضدّ المسيح” فسيظهر في الأيّام الأخيرة. (1يو 2: 18). المؤمنون يطلبون: “ماران آثا. تعال أيّها الرّبّ يسوع”.